أعلان الهيدر

الثلاثاء، 17 ديسمبر 2019

الرئيسية حول موضوع الموسيقى والغرض من سماعها

حول موضوع الموسيقى والغرض من سماعها




"حول موضوع الموسيقى والغرض من سماعها"

تأليف: سكستوس إمبيريقوس
ترجمة وتقديم: كمال بومنير





سكستوس إمبيريقوس Sextus Empiricus فيلسوف وطبيب يوناني عاش بين 160-210 ق.م. كان أحد أعضاء مدرسة الأطباء التجريبيين التي عارضت ما يُسمى بالمدرسة الطبية الدوغماتية التي كانت تكتفي بوصف الأمراض من دون الاهتمام بأسبابها وعللها، علما أنّ المدرسة الطبية ذات التوجه التجريبي قد عرفت نشاطا طبيا كبيرا حوالي عام 190 ق.م. كما كان سكستوس إمبيريقوس أيضا أحد أقطاب مذهب الشكّاك اليوناني والروماني الذي نفى إمكانية الوصول إلى المعرفة اليقينية وإدراك الحقيقة. وتجدر الإشارة إلى أنّ سكستوس إمبيريقوس كان من أواخر الشكّاك وأكثرهم جرأة فيما يخص إنكار إمكانية المعرفة واليقين، حتى في الحقول العلمية،كالرياضيات والمنطق والطبيعة والفلك، إلى جانب الميتافيزيقا والأخلاق والنحو والبيان، نظرا للغموض والإبهام والتناقض الذي يميّز المعرفة في كل هذه الحقول والمجالات العلمية والفلسفية. من أهم أعماله يمكن أن نذكر:"نظرات بيرونية"، "ضد الرياضيين"، "ضد النحويين"، "ضد الفلكيين"، "ضد المنطقيين". أما الكتاب الذي تطرق فيه سكستوس إمبيريقوس إلى المسائل والقضايا المتعلقة بفن الموسيقى فقد جاء بعنوان "ضد الموسيقيين".

النص:

للموسيقى عدة معانٍ؛ فهي تعني -أولا وقبل كل شيء- ذلك العلم الذي يدرس الأنغام والألحان والأصوات وما تعلق بمحاكاة الإيقاع وأشياء أخرى مشابهة لها. وبهذا المعنى نقول مثلا إنّ أريستوكسين Aristoxène ابن سبينثار Spinthare موسيقي. أما المعنى الثاني، فهو متعلق باستعمال الآلات الموسيقية، وبذلك فإنّ من يستعمل المزمار والآلات الموسيقية ذات الأوتار المضمومة والقيثارة هم من دون شك يعدون من الموسيقيين. ليس بخافٍ أنّ هذه المعاني مستعملة بشكل عادي في حياتنا اليومية، غير أننا قد نستعملها أحيانا بنوع من التعسف عندما يتعلق الأمر بأشياء أخرى، كأن نتحدث مثلا عن عمل فني "متناغم"، فيما يخص فن الرسم وبمن يرسم لوحة فنية جميلة، مستلهما ربات الفن Les muses. وهكذا، يمكننا أن ننظر إلى الموسيقى من عدة جوانب، وبالتالي يمكننا القيام بدحضها فيما يخص معناها الأول الذي أشرنا إليه سابقا لأنّ هذا المعنى، فيما يبدو، هو المعنى الذي تشكل بالصورة المكتملة بالمقارنة مع معاني الموسيقى الأخرى. هذا، ويمكننا أن نستعمل هنا شكلين من الدحض؛ فالبعض، وخاصة الذين غلب عليهم الطابع الدوغماتي، يعتقدون بأنّ الموسيقى ليست موضوعا جديرا بالدراسة فيما يخص تحقيق السعادة بل يعتبرونها مضرة بحجة أنّ أقوال الموسيقيين جديرة بالاستنكار، وهذا ما لا يستقيم بالكلية.في حين يعتقد آخرون بنوع من الريبة والشك أنه من الممكن تفنيد وإبطال الافتراضات الأساسية التي يدعيها الموسيقيون بسهولة ويسر. أما نحن، فإننا من جهتنا، وتجنبا لتحريف وتشويه الآراء، نميّز بدون شك بين هذه الآراء التي أشرنا إليها، وسنتجنب قدر المستطاع التطرق إلى استطرادات طويلة.
والحقُ أنّ مقصدنا من ذلك كله يتمثل في اتخاذ رأي وسط من بين كل هذه الآراء. ولتحقيق هذا الغرض فإننا سنعطي الأولوية للحجج التي ستكون في صالح الموسيقى. وفي حالة ما إذا سلمنا بأنّ الفلسفة تحقّق مطلب تعقّيل الحياة الإنسانية فقد يكون من الممكن، في هذه الحالة، القول بأنّ الموسيقى تؤثر فينا نحن البشر وتحقق المطالب نفسها التي تحققها الفلسفة فيما يخص تعقيل الإنسان بغية جعله حكيما [..]. 


يمكننا القول بأنّ فائدة الموسيقى، إن وُجدت بالفعل، تعني بالنسبة إلى من يتعلمها أنه سيشعر بنوع من المتعة عند سماع مقطوعة موسيقية لا يمكن أن يشعر بها الجاهلون بأصول فن الموسيقى. أو بعبارة أخرى لا يمكن أن نتصف بالفضيلة إن لم نتتلمذ حقا على يد موسيقي متمرس بحيث تكون عناصر الموسيقى هي العناصر التي تشكل حقا معرفة المواد الفلسفية- مثلما بينا ذلك فيما يخص علم النحو- أو بمعنى آخر يقوم على فكرة مفادها القول بأنّ العالم محكوم بمبدأ التناغم مثلما أكدت ذلك المدرسة الفيثاغورية، ومن ثمة نحن في حاجة إلى نظرية موسيقية إذا أردنا أن نعرف حقيقة الكون، أو أن يؤثر الغناء في الأفعال الأخلاقية للنفس الإنسانية. ولكن، وبغرض إثبات فائدة الموسيقى، لا يمكننا أن ندعي أنّ الموسيقيين يجدون متعة عند سماع الموسيقى أكثر من أولئك الجاهلين بأصول هذا الفن لأنّ تحقيق هذه المتعة ليس ضروريا بالنسبة إلى هؤلاء، كما هو عليه الحال فيما يخص الألم أو المشقة التي يحدثها الجوع أو العطش - حينما يشعر من يتناول طعاما أو شرابا بالمتعة والتلذذ. وحتى وإن اعتبرنا هذه المتعة من المتع الأساسية يمكننا -بطبيعة الحال- تذوقها من دون حاجة إلى الممارسة الموسيقية. لذلك نلاحظ على سبيل المثال أنّ الأطفال الصغار ينامون بمجرد سماعهم لحن موسيقي ما، كما أنّ الحيوانات –التي تفتقر إلى العقل كما هو معلوم- تطرب أيضا عند سماعها الأصوات المنبعثة من المزمار La flûte أو المصفار La syrinx . فالدلافين مثلا، وكما يُحكى عنها، حينما تُعجب بأصوات المزمار تتجه نحو مجذيفي السفن، وهذا على الرغم جهلهم بأصول وقواعد الألحان الموسيقية. ولكن على الرغم من جهلنا بفن الطبخ أو التذوق فإننا نجد –من دون شك- متعة في تناول الطعام والشراب. لكن هل في حالة ما إذا كنا نجهل فن الموسيقى نحقق متعة سماع لحن موسيقي جميل ؟ الحقُ أنّ العارفين بهذا الفن سيشعرون من دون شك بالمتعة عند تحقيق هذا السماع أكثر من الجاهلين بأصول هذا الفن، ولكن –والحقُ يقال- وبالنظر إلى المتعة الحسية في حد ذاتها فلن يحققوا فعلا متعة أكثر منهم.
والمترتب عن ذلك أنه لا يصح تعظيم أو تبجيل الموسيقى لأنّ العارفين بأصولها يستطيعون تذوقها والتمتع بها أكثر من الجاهلين بهذا الفن، لا بسبب كونها قد تجعل النفس الإنسانية قادرة على بلوغ الحكمة، ولكن، وعلى العكس من ذلك، قد تقف حاجزا أمام رغبة المرء في تحقيق الفضيلة، وتحث الشباب على الشراهة والنهم والطيش. 


Sextus Empiricus, Contre les musiciens. Traduit du grec par Ch. Em. Ruelle, Paris, Librairie De Firmin-Didot, 1896, pp 2- 4.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.