أعلان الهيدر

الثلاثاء، 17 ديسمبر 2019

الرئيسية فالتر بنيامين: نحو مقاربة تأسيسية جديدة لنظرية الترجمة

فالتر بنيامين: نحو مقاربة تأسيسية جديدة لنظرية الترجمة


فالتر بنيامين: نحو مقاربة تأسيسية جديدة لنظرية الترجمة




ملخص مداخلتي الموسومة ﺑـــ "فالتر بنيامين: نحو مقاربة تأسيسية جديدة لنظرية الترجمة" في الندوة المغاربية التي نظمها مركز البحث في الأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية (Crasc) بوهران حول ترجمة الفلسفة والعلوم الإنسانية في المنطقة المغاربية يومي 27-28 نوفمبر 2018.

معلومٌ أنّ الفيلسوف الألماني فالتر بنيامينWalter Benjamin كان قد كتب مقاله الهام الموسوم ب"مهمة المترجم" La tâche du traducteur عام 1921 كافتتاحية لترجمته لبعض من قصائد شارل بودلير بعنوان "لوحات باريسية" Tableaux Parisiens. والحقُ أنّ هذا النص المركزي يطرح في الحقل الترجمي العديد من المعضلات تخص طريقة مقاربته وفهمه وتأويله، بالنظر إلى ما يكتنفه من غموض وما يطرحه من صعوبات في إدراك مقاصده وأبعاده. فمن المعلوم أنّ فالتر بنيامين كتب هذا النص عام 1921، وبهذا، هو ينتمي بحسب المتخصصين في فلسفة بنيامين إلى كتابات الشباب أو ما يسمى بحسب تقسيمهم لتطور فكره الفلسفي بنيامين الشاب Le jeune Benjamin حينما درس التراث اللاهوتي القبالي(بعد تأثره بصديقه المتخصص في القبّالة اليهودية غيرشوم شوليم Gershom Scholem) والرومانسية الألمانية المبكرة ليوهان هامان Johann Hamann ونوفاليس Novalis وشليغل Schlegel وبالتالي قبل أن يتأثر بالفكر الماركسي، بعد اطلاعه على كتاب غيورغ لوكاتش الموسوم ب "التاريخ والوعي الطبقي" وأعمال المسرحي الكبير برتولت بريشت.
اعتقد أنّ السؤال المركزي الذي يجب طرحه هنا هو: ما هي المهمة الأساسية التي يجب أن يضطلع بها المترجم؟
للإجابة على هذا السؤال المركزي سينصب اهتمامي على جملتين من مقاله "مهمة المترجم" اعتبرهما مفتاح فهم هذه المهمة، الجملة الأولى تتمثل في قوله:
« La finalité de la traduction consiste, en fin de compte, à exprimer le rapport intime entre les langues » p 248.
"الغاية من الترجمة هي التعبير عن العلاقة الحميمية التي تربط بين اللغات الإنسانية". أما الجملة الثانية فهي قوله:
« La tâche du traducteur consiste à faire mûrir, dans la traduction, la semence du pur langage» » p 255.
"مهمة المترجم تتمثل في إنضاج بذرة اللغة الخالصة".
اعتقد أنّ فهم ما يقوله هنا بنيامين بخصوص "تعدد اللغات" و"اللغة الخالصة" يقتضي وضع الجملتين في سياق الخلفية اللاهوتية والرومانسية التي أطرت فكر بنيامين –كما أشرنا إلى ذلك سابقا- ضمن هذا السياق يميّز هذا الأخير بين ثلاث مراحل فيما يخص أصل اللغة L’origine du langage؛ المرحلة الأولى تتمثل في اللغة الإلهية le langage divin التي كانت أساس خلق العالم من خلال "كن فيكون"، علما أنّ اللغة الإلهية سابقة عن الوجود الإنساني نفسه، وما يميز هذه اللغة تمثّل ماهية الواقع نفسه، وبذلك فهي تسبق مرحلة التمييز بين الكلمات والأشياء. المرحلة الثانية تتمثل في اللغة الآدمية Le langage Adamique وهي اللغة الأصلية للإنسانية جمعاء، حيث تحقق التطابق التام بين الكلمات والأشياء.، وهي اللغة التي ضاعت منذ لحظة بابل التي ترتب عنه –بحسب بنيامين- ظهور في المرحلة الثالثة ما يسمى اللغة الأداتية Le langage instrumental التي تحوّلت إلى مجرد وسيلة للتواصل ضمن تعدد اللغات الإنسانية بعد مرحلة الوحدة اللغوية الآدمية الأصلية الذي اقتضى وجود الترجمة نفسها، فقد نشأ هذا التعدد وفق الرؤية اللاهوتية المشيحانية بعد لحظة بابل التي نتج عنها تبعثر اللغات واختلافها بين الأمم والشعوب. غير أنّ السؤال الذي يجب طرحه ضمن هذا السياق هو: لماذا ربط بنيامين الترجمة بكشف اللغة الخالصة؟ ولماذا كان تحرير هذه اللغة الخالصة الثاوية وراء اللغات أمرا غير ممكن إلا من خلال الترجمة؟ 

من المعلوم أنّ موقف بنيامين فيما يخص الترجمة باعتبارها تحقيق اللغة الخالصة تجد منابع ولادتها في التراث الديني القبالي وهذا ما يظهر عبر ما كان إسحاق لوريا Isaac Louria أحد مؤسسي القبّالة بالوعاء المنكسر Le vase brisé، التي فسّر بها خلق العالم، بحيث يرى بنيامين أن تعدد اللغات يتبدى لنا كتجزؤ أو تشظٍ للغات Fragmentation des langues ، بحيث أنّ كل لغة هي جزء يحيلنا إلى كلية متمثلة في اللغة الخالصة لأنّ هذه الأخيرة تتشكل من الأجزاء أو الشذرات اللغوية المتمثلة في اللغات الطبيعية السائدة في العالم، وبذلك يمكننا القول بأن اللغة الخالصة-وفق هذه الرؤية- تعبّر عن ذلك التكامل الذي يتم بين اللغات، ومن هنا تبرز وظيفة المترجم في إظهار هذه اللغة الخالصة التي بقيت رواسبها داخل هذه اللغات المتقاربة في الأصل، ومؤشر هذا التقارب يتمثل -بحسب بنيامين- في قابليتها للترجمة إلى بعضها البعض. وبعبارة أخرى نقول استنادا إلى شروح وتعليقات أنطوان بيرمان في الكتاب الذي أشرنا إليه سابقا أي "عصر الترجمة": إنّ وظيفة المترجم الأساسية هي العمل على دمج اللغات المجزأة والمتشظية بغية تحرير اللغة الخالصة المستترة وراء هذه اللغات. ضمن هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنّ "اللغة الخالصة" لا تمثل تجاوزا للغات الطبيعية بل هي تمثل ذلك الاكتمال المشترك بينا، لذلك فإن الترجمة هي التي تقوم بوظيفة تجميع الشذرات اللغوية حتى تتكامل لأنّ اللغات كما يقول بنيامين في نص آخر بعنوان "ترجمات" Übersetzungen
« Ergänzen diese Sprachen sich in ihren Intentionen selbst »
أي " تتكامل اللغاتُ ضمن مقاصدها".
وهذا يعني أنّ القرابة الموجودة بين اللغات الإنسانية تقوم أساسا على وحدة "القصد" بينها لأنّ كل لغة تقصد بطريقها الخاص أمرا لا يتحقق إلا بتكامل اللغات وبتعاونها على التوجه إليه بصورة متكاملة كما تكمل قطع الوعاء المنكسر الواحدة منها الأخرى عندما نضم بعضها إلى بعض. وبذلك يكون بلوغ اللغة الخالصة هو مقصد الترجمة. يقول فلتر بنيامين:
Car, de même que les débris d’un vase, pour qu’on puisse reconstituer le tout, doivent s’accorder dans les plus petits détails, mais non être semblables les uns aux autres, ainsi, au lieu de s’assimiler au sens de l’original, la traduction doit bien plutôt, amoureusement et jusque dans le détail, adopter dans sa propre langue le mode de visée de l’original, afin de rendre l’un et l’autre reconnaissables comme fragments d’un même vase, comme fragments d’un même langage plus grand » p 257.
"مثلما أنّ شظايا وعاء يجب أن تتوافق في أصغر التفاصيل، دون أن تتشابه فيما بينها، فكذلك الترجمةُ، بدلا من مشابهة الأصل، وحتى نستطيع إعادة تشكيل الكل، يجب أن تتبنى في لغتها، بحبٍ وبالتفصيل، قصدية الأصل، حتى يتم التعرّف عليهما (أي الأصل والترجمة) بوصفهما شذرتين لوعاء واحد، ومن لغة أكبر منهما".

ولنا أن نطرح مع بنيامين السؤال التالي: إذا كانت المهمة الأساسية للمترجم هي بلوغ اللغة الخالصة فكيف يمكنه تحقيق هذا الغرض؟ يعتقد فالتر بنيامين أنّ الوصول إلى هذا الغرض مرهون بتحقيق معادلة تُرجمية بين مبدأ الأمانة Le principe de fidélité أو ما يسميه بنيامين أبضا "الحرفية" La littéralité ومبدأ الحرية Le principe de liberté ، علما أنّ النظريات التقليدية في الحقل الترجمي كانت ترفض إمكانية الجمع أو التوفيق بينهما. والحقُ أنه لم يكن يُطلب من المترجم وفق النظريات التقليدية في عمله الترجمي سوى نقل وتحويل أمين للنصوص من لغة إلى أخرى، والتوصيل الدقيق للنص الأصلي من خلال محاكاته. ولكن: هل يستطيع المترجم أن يفي بحق النص الأصلي؟ يعتقد فالتر بنيامين أنّ المترجم مهما أوتي من تحكم في اللغتين أي لغة الانطلاق Langue de départ ولغة الوصول Langue d’arrivée، ومن بُعد نفاذ وعمق في الفهم ودرجة عالية من الأمانة فإنه لا يستطيع أن يفي بحق النص الأصلي، لهذا السبب ليست هناك ترجمة نهائية أو مكتملة للنص الأصلي لأنه ليس من السهل الوصول إلى ما كان يسميه هولدرهين Hölderlin "المعنى الحي" Le sens vivant أو ما يسميه فالتر بنيامين "اللغة الحقيقية" Die wahre Sprache أو "اللغة الخالصة". ضمن هذا السياق يعتقد فالتر بنيامين أنّ الترجمة الحقيقية شفافة ولا تخفي النص الأصلي.
« Die wahre Übersetzung ist durch scheinend, sie verdeckt nicht das Original, steht ihm nicht im Licht, sondern läßt die reine Sprache, wie verstärkt durch ihr eigenes Medium » Die Aufgabe des Übersetzers, p 189.
« La vraie traduction est transparente, elle ne cache pas l’original, ne l’éclipse pas, mais laisse, d’autant plus pleinement, tomber sur l’original le pur langage, comme renforcé par son propre médium » p 257.
وهذا ما يجعل –والحقُ يقال- مهمة المترجم صعبة وشاقة. ولكن ومع ذلك، يمكنه أن يقترب من هذه اللغة الخالصة انطلاقا من المقصد المشترك للتنوع اللغوي ضمن أفق التكامل والتقارب بين اللغات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.