ماهية الألوان والأشكال عند فاسيلي كاندنسكي
هذه الترجمة مهداة للبروفيسور فتحي التريكي
"ماهية الألوان والأشكال عند فاسيلي كاندنسكي"
تأليف: ميشيل هنري
النص:
لقد كشف لنا تحليل الرسّام التشكيلي الروسي فاسيلي كاندنسكيWassily Kandinsky ﻟ "عناصر" فن الرسم أنّ هذه الأخيرة مزدوجة، فهي "خارجية وداخلية"،مرئية وغير مرئية. لذلك جاز لنا القول بأنّ اللون قد ينتشر أمامنا في جزء من مساحة اللوحة الفنية ويتبدى لنا كشيء خارجي. ولكن ومع ذلك، لا يمكن أن نجد شيئاً ما أو "لوناً" في ذاته مثلما لا يوجد حجرٌ حارٌ أو مؤلمٌ. فالحرارة والألم واللون هي مجرد إحساسات وانطباعات، أو ما يسميه ديكارت ﺑــ "انفعالات النفس". فمعلومٌ أنّ الوجود الحقيقي للون الأحمر مثلا هو مجرد انطباع للشيء المرئي نفسه؛ وهذا ما ينطبق أيضا على اللون الأزرق أو الأخضر أوالأصفر، الخ. وإنه مهمٌ في هذا الشأن أن نلاحظ هنا أنّ رسم اللون الأحمر يعني رسم لهذا الانطباع المحدّد، ولهذا الإحساس العنيف المتعلق بالحياة نفسها. والحقُ أنّ هذا هو ما يدفعنا إلى القول بأنّ اللون الأحمر هو بمثابة "لون للحياة". أما اللون الأزرق فيعني رسم السِلم، بحيث يترك لنا بصورة هادئة ما يبتعد عنا. أما اللون الأصفر –المقبل علينا كإنذار أو تهديد، فالأمر اللافت -من دون شك -هو أنه يثيرنا. ومن المهم أن نلاحظ، في أية حال، أنّ الأحاسيس التي حلّلها كاندنسكي بدقة فائقة وفق مختلف الألوان ليست لم تكن مرتبطة البتة مع هذا الأخير، وهذا بمقتضى ذلك الترابط العارض والمتغير من فرد إلى فرد آخر، لا بوصف حرْفي مختفٍ في مادة الرسم نفسه. والحالُ أنّ الأمر هنا متعلقٌ بماهية اللون نفسه وبلُحمته الحسية التي تشكلت بالأثر الذي وصفه كاندنسكي. فمعلومٌ أنّ اللون مجرد انطباع وجزء من ذاتيتنا الحية، المتألمة والمتمتعة. وذلك أنّ اللون الذي نراه هو مجرد إسقاط خارجي مرتبط بمضمون اللون الانطباعي والذاتي والمثير للعواطف والأحاسيس. و بذلك فهو يحتل موقعا في حياتنا اللامرئية Invisible ولا يوجد إلا بصفته لحظة من لحظات الحياة.
يسعنا القول إنّ ما أشرنا إليه بخصوص الألوان متعلقٌ أيضا بالأشكال "المزدوجة": الخارجية منها، وذلك لأنه بمقدورنا أن نتتبع بالرؤية ما تم رسمه على الورق أو اللوحة، أما فيما يتعلق بجانبها الداخلي فلأن كل شكل يمثّل في واقع الأمر قوة كامنة في حياتنا وحركة نابعة منها لأنه يعبّر أيضا عن اندفاعها ورغبتها، بل وعن ذلك الجهد الذي ينضب ويحوّل الألم إلى نقيضه بغية إرواء غليله عبر الفرح والسعادة عبر كل التركيبات الشكلية التي ابتكرها كاندنسكي. الأمر اللافت بلا شك هو أنّ الشكل واللون يستمدان من سر حياتنا حيويتهما وشغفهما، وهذا بالضبط ما يحجبه عنا الإدراكُ العادي الذي يوجهنا نحو الأشياء الخارجية من خلال الرد اللامتناهي للدلالات حيث يضمحل وجودنا اليومي. وفي هذه الحال فإنّ الرجوع إلى الأشكال والألوان عبر "صورتها الخالصة"، وإدراكها في ذاتها، ومن أجل ذاتها يقتضي –والحقُ يقال-القيام بعملية اختزال تُستبعد فيها كل الدلالات الموضوعية والنفعية التي تشكل العالم الخارجي، أي "الواقع"، بالإضافة إلى جملة الدلالات اللغوية التي نعبّر بواسطتها عن هذا العالم. ربما تجدر الإشارة إلى أنّ العديد من الرسّامين ما فتئوا يقومون بعملية الرد الفينومينولوجي(بصورة عفوية) بغية اكتشاف الألوان "الحقيقية"، بحيث وضعوا "بين قوسين" جملة الدلالات الموضوعية "المتعالية" التي تكوّن عالمنا الطبيعي. ولعلّنا نذكّر عند هذه النقطة بأنّ الاختزال أو الرد بمعناه الفينومينولوجي عند هوسرل كان يهدف إلى الكشف عن ما هو معطى بالفعل قصد معرفة ما يظهر لنا من أشياء حسية كالألوان والأشكال الخالصة التي عمل الرسّامون التشكيليون على استعادتها.
هذا، ويُعتبر كاندنسكي أكثر من غيره من الرسّامين من عبّر بطريقة راديكالية عن استبعاد الموضوع الخارجي ورفض التشخيص الذي يرد فن الرسم إلى "عناصره" الخاصة. لقد ذكر كاندنسكي أنه كان منبهرا بالألوان الخالصة منذ طفولته المبكرة، بحيث لم تكن هذه الأخيرة متعلقة بأشياء بعينها وإنما كانت مجرد ألوان فقط. وعلاوة على ذلك، بيّن أنه حينما نفصل حرفا أو رمزا معينا عن دلالاته اللغوية أو عن سياقه نستطيع القيام من جديد بتجربة "شكله الخالص". ومن البديهي أنه بمجرد استبعاد العالم وكل دلالاته وإخفاء اللوغوس Logos الذي طالما تحدّث عنه البشر سيطرح حتما السؤال التالي: ماذا يبقى من كل هذا؟ لقد أصبحنا في نظر هوسرل Husserl والفنانين الذين رفضوا النزعة الواقعية أمام تجليات حسية يُختزل فيها الانعطاء الحقيقي للعالم وتجربته الخالصة. ولكن فيما تتمثل هذه المظاهر الخالصة، وماذا تكشف لنا؟ ما دلالة ذلك حينما تكون الرؤية القصدية، وفي الوقت الذي تستند فيه هذه التجليات على شيء آخر لا على نفسها؟ ومهما يكن من أمر فإنّ هذه الأشكال والألوان الخالصة والعناصر الرسمية وصلت إلى أعلى درجة من التجريد، بحيث يمكن مشاهدتها في آخر لوحات واسيلي كاندنسكي الباريسية. ولكن ماذا نشاهد عبر هذه اللوحات؟ وكيف يمكن أن يكون لها معنى بالنسبة إلينا؟ حسبنا أن نشير إلى أنّه هنا تكمن عبقرية كاندنسكي التي ميزته عن كل الرسّامين والفلاسفة فيما يخص مسألة التجريد. وعلى نحو لافت للنظر، وبعد هذا الاكتشاف الرائع الذي قام به كاندنسكي، تساءل أحد النقّاد عن آخر لوحة رسمها الفنان الفرنسي جان دوبوفيه Jean Dubuffet التي لا "تمثّل" شيئا ما، بحيث لا نستطيع أن نجد شيئا ما أمامنا. ضمن هذا السياق يرى كاندنسكي بأنّ هذه العدمية قد دفعت جان دوبوفيه إلى الانقطاع عن الرسم. والحالُ أنه إذا نحن أردنا الآن أن نرى، انطلاقا من هذه الألوان والأشكال شيئا أسمى يمكن أن تبيّنه أو تشير إليه، كانت الإجابة في آخر المطاف هي: لا شيء. والجدير بالذكر بهذا الصدد هو أنّ "لغز" الأعمال الفنية الأخيرة التي أنجزها كاندنسكي تظهر لنا في شكلها السلبي.
هذا، وبمقدورنا القول إنّ المشاهد محتار فعلا أمام هذا الابتهاج البصري العجيب والمبالغات الزائدة للضوء، بل وأمام هذه الأشكال الخارجية المتمايلة في وسط بلا ثقل، وهذه الأجسام اللامادية والميتافيزيقية التي تأخذنا على غرة وتباغتنا، بحيث لا نستطيع غض النظر عنها وتجاهلها. غير أنّ كل ذلك مرتبط بالبحث عن سر هذه الأشكال الصامتة والألوان الباهرة، ولكنه ومع ذلك لا يجد أي واقع أو مضمون آخر سوى جملة الألوان التي ليست سوى مجرد ألوان خاصة لهذه الأشكال التي لا تحيلنا إلى شيء يمكن التعرّف عليه، بالنظر إلى كونها مجرد أشكال. ومن المهم أن نلاحظ، في أية حال، أنّ الرؤية هنا تعني التوجه المقصود إلى الشيء وتوّقع لقائه. إنه الذهاب لملاقاة ما كنا ننتظر رؤيته والتعرّف عليه. غير أننا قد لا نتعرّف في هذه اللوحات على أي شيء. وبناء على هذا فإنّ قصدية الوعي، هذه الحركة المعرفية المتوجهة نحو ما تسعى لفهمه، قد تصطدم بغاية عدم التلقي المتمثلة على وجه التحديد في تلك المنظورات التي يعجز النظرُ عن تتبعها، وفي الفضاءات التي لا يستطيع تجاوزها، وفي ألوان اللاشيء. وليس هذا فقط، بل وفي تلك الأشكال والرموز الخالية من المعنى التي تبقى غامضة دوما. وعند بلوغ المسار التلقيني للتجريد مثلما هو عليه حال المسار الروحاني يجب القول بأنّ من يبحث لن يجد شيئا ما [..].
لا شك أنّ الخطأ الذي وقعنا فيه نحن "المحدثون" المنتمون إلى عالم المعرفة العلمية أي المعرفة الموضوعية للعالم يتمثل في ذلك الاعتقاد الجازم بأنّ هذا النمط المعرفي هو النمط الوحيد الذي نملكه، بل والسبيل الوحيد للوصول إلى الماهية الخفية للأشياء. لكن إذا كانت هذه الماهية "خفية" فعلا، بحيث يتعذر بلوغها بواسطة هذه المعرفة، وفي ضوء العالم والموضوعية، أي من خلال ما هو "خارجي"، فأين ترتمي القصدية وتوجد الأشياء التي تكسب دلالاتها من خلال اللغة ؟ ولو كانت ماهية الأشياء للحياة اللامرئية التي لا تكف عن اكتساحنا تحت المحك المنيع لشقائها ومرحها، وفي الانتقال من إحداهما إلى الأخرى، فهل هذا الانتقال الذي يمثّل حركة الحياة نفسها وديناميكيتها مثير للعواطف والأحاسيس؟ وحتى ولو وجدت الألوان والأشكال في ماهية هذه الحياة ماهيتها الخاصة، أو كانت في الأصل مجرد انطباعات وقوى، أو مجرد انفعالات وحيوية، أمكننا القول بأنه أمام اللوحات الأخيرة التي رسمها كاندنسكي، وأمام هذه "الإنشاءات" أو "التكوينات" الغامضة ترتبط أشكال مرسومة وألق الألوان وفق قوانين لا نجد لها نموذجا مرئيا، بحيث لم يعد الأصل والأساس هو النظرُ مادام لم يعد من الممكن تحقيق هذا النظر، ولكن ومع ذلك، نستطيع الإحساس به؛ فحينما ننظر ينكشف لنا حقا شيءٌ آخر. ومع ذلك، فقد يدفعناّ هذا الإحساس إلى إدراك حياتنا الخاصة بشدة وعنف، بحيث تكون لدينا انطباعات لم نشعر بها من قبل، وبخاصة ما يتعلق بالحياة السامية والرفيعة المرتبطة بالعمل الفني. فمعلومٌ أنّ هذه الانطباعات مرتبطة بتلك الألوان والأشكال التي رسمها كاندنسكي، وبالتالي خلّصها من كل علاقة بوضوح العالم ومعقولية المعنى، فتحولت إلى "أنغام" و"اهتزازات روحية". وإذا كان الأمر كذلك، وجب التخلص حتما من انعكاساتنا الإنسانية المنتمية إلى عالم المعرفة العلمية والكف عن الاعتقاد بأنّ اللغز مؤقت وأنّ مهمة المعرفة تكمن في كشف هذا اللغز تدريجيا. ومهمٌ أن نلاحظ أنّ الفن يحتفظ بذلك السر، لأنّ مهمته الأساسية هي الكشف عن هذا اللغز، وأنّ ما هو جدير بالاهتمام هو ماهية حياتنا اللامرئية. ولما كان الرسام التجريدي واعيا بهذا الوضع والمهمة التي استأثر بها الفن فإنّ هذا متعلقٌ في حقيقة الأمر بكل أشكال الفن وبفن الرسم قبل كل شيء. لذلك نستطيع القول بأنّ فن الرسم كله مجرّد. وعلاوة على ذلك فإنّ هذا الفن يجمع الألوان والأشكال، غير أنّ غرضه ليس متوقفا على المرئي، وهذا حتى عندما يضطر إلى تمثّله بكيفية ساذجة، ولا حتى جوهره. فمعلومٌ أنّ غرض فن الرسم هو أن يجعلنا نشعر بما نحن عليه، وبالحياة في خضم دوافعها وقلقها وألمها ومرحها. أما جوهر الألوان والأشكال فهو مجرد شذرات من هذه الحياة وحيويتها المتوهجة. وعلى هذا النحو نستطيع القول بأنّ لوحاته الباريسية الأخيرة تُظهر للمشاهد ماهية الرسم كله بل والفن كله لأنها تكشف عن موضوعها الحقيقي المتمثل –كما أشرنا إلى ذلك سابقا- في سر الحياة لأنها تحدّد بغير لبس وسائل هذا الكشف. والحقُ أنّ هذه الألوان الخالصة والأشكال الخالصة المُعاشة في واقع الذاتية الخالصة تنتمي هي نفسها إلى الحياة. والحالُ أنّ الألوان والأشكال ليست فقط عناصر اللوحة وإنما هي أيضا عناصر الكون الذي نعيش فيه. ولو كانت ماهية كل شكل وكل لون مزدوجة من الناحية الخارجية والناحية الداخلية في الوقت نفسه أليس هذا الشرط بالضرورة متعلقا بالألوان والأشكال الطبيعية؟ لا يجب على هذه الأخيرة -بالإضافة إلى ما يمكن أن تظهره للمشاهد- الغوص في الحياة الغامضة لأنفسنا بحيث يكون لها –ككل عنصر رسمي- "نغمها الداخلي" وصداها؟ ففي هذه الحالة يكون وضع الكون شبيها بالرسم التجريدي. لذلك سيكون موقعه داخلنا حيث إنّ اللون انطباع وطريقة لكل واحد منا لأن يتأثر، وهذا حينما نشاهد أشكالا مرسومة محيّرة ابتكرها بكثرة كاندنسكي. وفضلا عن ذلك لا يكون العالم ما يُراد لنا أن نتصوره أي العالم الخارجي بمعنى الكلمة أي مجرد موضوعية خالصة وخالية من بُعد داخلي ومجرد جزيئات مادية من "الأشياء" المختزلة في امتدادها الهندسي التي لا تشعر بشيء ما. وحقيقة الأمر أنّ هذا العالم أي عالم المعرفة العلمية المليء بالمُثل المجردة قائم على عالم الحياة أي العالم المحسوس، عالم البرد والجوع والقلق والجمال والألوان والأشكال.وعلى غرار هذه الأخيرة تكمن جذور هذا العالم فينا، فهو على حد تعبير جميل لكاندنسكي "مليء بالصدى. إنه يشكل عالما من كائنات تمارس فعلا روحيا. إنّ المادة الميتة هي روح حية".
Michel Henry, De l’art et du politique, Presses universitaires de France, 2004, pp 221-225.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق