الفن في الأزمنة الحديثة
هذه الترجمة مهداة للبروفيسور محمد جديدي
"الفن في الأزمنة الحديثة"
تأليف: فرانسيس بيكابيا
ترجمة وتقديم: كمال بومنير
وُلد الرسّام الفرنسي فرانسيس بيكابيا Francis Picabia في عام 1879 بباريس. تلقى دروسه الأولى في فن الرسم منذ سنة 1895 في مدرسة الفنون الجميلة. ثم التحق بأكاديمية همبرتHumbert ، حيث عمل إلى جانب بعض الرسّامين الكبار في زمانه، منهم براك Braque وسيسلي Sisley وبيسارو Pissarro . تأثر بالحركة الانطباعيةImpressionisme التي هيمنت على الساحة الفنية في ميدان الرسم منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد كان لهذا التأثير بداية جديدة في المسار الفني لبيكابيا بعد رسم بعض لوحاته الرائعة، منها: "سباق الزوارق" و"فيلاديلفيا" و"رقص على النبع". ولكنه سرعان ما تخلى عن الانطباعية واهتم بالرسم التجريدي ثم التكعيبي. وفي عام 1913 سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث استطاع توطيد علاقاته مع بعض الفنانين والمثقفين الأمريكيين في مدينة نيويورك التي سحرته بأشكالها وألوانها، فاستوحى منها بعض لوحاته وخاصة لوحة "نيويورك". وفي عام 1917 اضطر للعودة إلى فرنسا إثر مرض عضال أصابه، فتوفي في عام 1953. من أهم أعمال بيكابيا: "منظر طبيعي"1909، "أغنية العبيد"1913، "قبعة من القش" 1921 "المنبع" 1912، "آلة تدور ببطء" 1916، " الليلة الاسبانية" 1912، "القناع والمرآة" 1930، " الربيع" 1938، "أمومة" 1936، "النهر" 1906، "مدينة نيويورك" 1913.
النص:
الفنُ، الفنُ... ما هو الفن؟ هل هو إعادة إنتاج منظر طبيعي بأمانة وصدق؟ بالطبع لا، فالفن ليس عملا ميكانيكيا. الأمرُ اللافت بلا شك هو أنّ رسم أو تصوير الطبيعة، كما تظهر لنا، وكما ندركها، ليس مجرد هندسة ميكانيكية. لقد ابتكر الرسّامون الكبار النماذج الأكثر اكتمالا وعبّروا عن الأشياء كما كانوا يرونها بصدق. أما فيما يخص عدم تشابه لوحاتهم، فليس ثمة شك أنّ الأمر يرجع أساسا إلى اختلاف وجهات نظرهم للأشياء وتباين رؤاهم حول العديد من الأمور. وحتى وإن صوّر الرسّامون الكبار الواقع بصدق، إلا أنني لا اعتبر أنّ عملهم هذا فن لأننا –والحقُ يقال- قد تجاوزنا هذه المرحلة، لذلك يبدو من الأهمية بمكان أن يحل الجديد محل القديم، وليس بغير ذي أهمية أن نشير إلى أنّ الفن الحقيقي يتطلب منا إبداع لوحة بدون الاعتماد على نماذج.
لقد حقّق الرسّامون القدامى نجاحات وشغلوا مكانة معتبرة في حياتنا، ولكن ومع ذلك، استطعنا أن نتجاوز هؤلاء الرسّامين. ليس ثمة شك أنه من المفيد أن نحتفظ بلوحاتهم في المتاحف الفنيّة لأنها تثير فضولنا وفضول من سيأتي بعدنا. ولا يمكن إنكارُ أننا أصبحنا نحن المحدثون، نعبّر عن روح الأزمنة الحديثة، وروح القرن العشرين. إننا نعبّر عن هذا من خلال لوحاتنا الفنية مثلما يعبّر الملحّنون الموسيقيون عن هذه الروح من خلال مقاطعهم الموسيقية. فمعلومٌ أنّ الموسيقى تجعلنا نشعر بمأساة الحياة ونستمع إلى دق طبول الحرب. إننا نشعر فعلا بذلك ولسنا في حاجة إلى رؤيتها . الأمر اللافت بلا شك هو أنّ عرض تمثيلية غنائية (أوبرا) تجسد فكرة كانت في ذهن مبدعها لا يمكن اعتبارها التعبير الأسمى عن الموسيقى. لذا، يسعنا القول إنّ المدارس الفنيّة القديمة التي كانت تصوّر كل التفاصيل تمثل بالنسبة إلى فن الرسم ما تمثله الأوبرا بالنسبة إلى الموسيقى.
كنتُ أنتظر منكم أنتم سكان مدينة نيويورك أن تفهموننا بسرعة، أنا وأمثالي من الرسّامين. فمدينتكم (نيويورك) مدينة تكعيبية Cubiste ومدينة مستقبلية Futuriste. ليس ثمة شك أنّ نيويورك تعبّر عن الفكر الحديث من خلال هندستها المعمارية وحياتها وروحها. لقد مررتم بكل المدارس القديمة وأصبحتم اليوم مستقبليين في أقولكم وأفعالكم وأفكاركم. لقد تأثرتم بهذه المدارس، مثلما تأثرنا نحن أيضا بها. وبالنظر إلى حداثتكم المفرطة، كان من الواجب أن تفهموا بسرعة الدراسات التي قمتُ بها منذ وصولي إلى نيويورك. ومهما يكن من أمر فإنها تعبّر اليوم عن روح هذه المدينة كما أحس وأشعر بذلك، عن شوارعها المكتظة والمزدحمة، عن ضجيجها وحركاتها وجمالها وابتهاجها.
ألا ترون شكلا أو جوهرا ما؟ هل حينما أتجول في مدينتكم لا أرى شيئا ؟ إنني أرى أشياء كثيرة، ربما أكثر منكم، أنتم الذين تعودتم على رؤية هذه الأشياء. إنني أرى ناطحات السحاب المدهشة والبنايات الضخمة والقطارات الرائعة، والعديد من الأشياء التي تدل على الغنى والرفاهية. إنني أرى عددا هائلا من البائعات النشيطات والموظفين والعمّال وهم يسرعون لتحقيق أهدافهم. إنني أرى في الليل عددا كبيرا من مشاهدي المسرح كلهم حيوية ونشاط مبتهجين وفرحين. ولا غرابة أنكم ما زلتم تتمتعون بروح الحداثة. أما أنا، فلا أرسم ما تراه عيني بل ما يراه عقلي، وما تراه روحي. أعود مشيا على الأقدام من Battery إلى Central park. والحالُ أنني أتأثر بكل حركة تقومون بها، في الصباح للالتحاق بأماكن عملكم، وفي المساء للعودة إلى منازلكم. وفي الليل أتأمل بنياتكم الضخمة. أرى مدينتكم،مدينة الأضواء والظلال. أما مينائكم، فقد شاهدت فيه السفن التي تأتي من كل بلدان العالم، لتضيف ألوان أعلام هذه البلدان إلى لون سمائكم وبحركم. لقد استوعبتُ هذه الانطباعات، ولكنني لستُ مستعجلا لرسمها على اللوحة. إنني أدعها ترسخ في ذهني، وحينما يغمرني الشوق إلى روح الإبداع ارتجل لوحاتي كما يرتجل الموسيقي موسيقاه.
Francis Picabia, Ecrits critiques. Edition établie par Carole Boulbes, Paris, Mémoire du livre, 2005, pp 50-52.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق