أعلان الهيدر

الثلاثاء، 17 ديسمبر 2019

الرئيسية نحو مقاربة فينومينولوجية لفن الرسم

نحو مقاربة فينومينولوجية لفن الرسم

" نحو مقاربة فينومينولوجية لفن الرسم"


تأليف: هنري مالديني
ترجمة: أ. د/ كمال بومنير


يبدو أنّ اللوحات الفنية الأولى التي رسمها الفنانون التكعيبيون من 1908 إلى 1910 قد استلهمت قولة بول سيزان Paul Cézanne الشهيرة: "كل شيء في الطبيعة ينبني على أحجام مختلفة، المكعب، الأسطوانة، المخروط، جذع المخروط، وفق المنظور". ولكن، وعلى الرغم من ذلك، فإنّ هذا المنظور خاص جدا؛ من المعلوم أنّ عناصر اللوحة التكعيبية لا تنعطي في فضاء مفتوح انطلاقا من نقطة ارتكاز خارجي للعمل الفني ولكن عبر فضاء ينفتح من اللوحة الفنية نفسها. وربما كان في وسعنا أن نتحدث هنا عن منظور معكوس؛ حينما تصلنا صور بارزة عوض أن نتوجه نحوها بحكم انجذابنا لأنها تفتقد –والحقُ يقال- إلى العمق الداخلي. إذا كان الأمر على ما ذكرناه، يمكننا القول انّ اللوحات التكعيبية التي رُسمت فيما يُسمى بالمرحلة التحليلية (1911-1913) قد تعرضت مظاهرها الحسية إلى ما كان يُطلق عليه في تلك الفترة من الزمن ﺒ "التشويهات" Déformations. على هذا الأساس، كانت مختلف أجزاء الجسم أو الوجه (الجبين، العينان، الأنف، الوجنات، الفم، الأذنان) مشتتة بالصدفة كطرفات عين تائهة، أو على العكس من ذلك، ممتزجة في صورة هجينة. غير أنّ هذه العناصر المنفصلة أو المرتبطة هي في الأصل مصمّمة على سطح قصد إدماجها في فضاء آخر، بحيث يمكن أن يعثر الجسم المقطّع أو المجزأ على أطراف أخرى. لأجل ذلك، نرى هنا كيف تتمفصل الأشكال وفق أبعاد فضاء تضم الوحدة البنيوية تكوّنها التصويري. وما من شك أنّ العمق الذي تتواجد فيه كل العناصر تنشأ عن توتر محايث فيما يخص علاقة المضمون بالصورة. وبذلك فإنّ هذه الأخيرة لا تنفصل -بطبيعة الحال-عن المضمون ولكن تتميّز عنه فقط. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ تعارضهما قد يخلق توترا يفرض ثلاثية أبعاد الفضاء. ومع ذلك، فإنّ اتحادهما يمثل من دون شك لحظة حاسمة. من المعلوم أنّ الرسّامين التكعيبيين قد حاولوا في العديد من المرات إيجاد مسلك لتفادي الفصل بين المضمون والصورة، ولكن من دون جمعهما في وحدة مندمجة. إنّ ما يميّز أحدهما عن الآخر، ضمن شبكة شكلية واحدة، هو اختلاف الكثافة التشكيلية. ومن الملاحظ أنّ ذلك كان يقاس بتواتر التباينات والقطائع، بحيث تتوافق فيها الاختلالات وفق ما يسمى ﺑ "قانون البلوريات". وفضلا عن ذلك، فإنّ اللوحة كانت تتضمن موضوعا رئيسيا، من حيث أنها كانت تتفرّد وتتميّز عن المجال الهامشي عديم الشكل تقريبا. ومن جهة أخرى، يربط التباين المتزامن كل الفضاء، المضيء والمعتم. ولا شك أنّ هذه القيم المتعارضة كانت تدعم فوق ارتفاع المسطحات التي تتقاطع وتتطابق. ولكننا لو أنعمنا النظر في اللوحة التكعيبية سنلاحظ من دون شك أنّ الأمر لا يتعلق هنا بنقطتين بل بمنطقتين متجاورتين، ولكنهما، في الوقت نفسه، متفاوتتين. ومع ذلك، يقتضي توحدهما في النقطة التي يفترقان فيها. وبناء عليه، فإننا نرى كيف تتخذ مختلف المتقاربات، المتفاوتة بانتظام عن السطح –بحسب تعبير ميرلوبونتي Merleau Ponty – "كمظهر لنفس الواقع وفق عمق ما". غير أنّ هذا العمق هو في حقيقة الأمر بُعد ثالث متجانس مع البُعدين السابقين، و"متباعد" مثلهما. ومن الواضح أنه ليس عمقا يجعل الأشياء على ما هي عليه. "إنّ النظرة لا تتغلب على العمق وإنما تديره" كما يقول ميرلوبونتي. ولا شك أنّ تطبيق هذا القانون في مجال الفن لهو علامة إخفاق. لذلك، وجب قلب الصيغة؛ إنّ النظرة التي شكلتها التكعيبية تدير العمق ولا تفتحه. وبمقدورنا القول إنّ العمق الذي يجعل الأشياء أو الأشكال على ما هي عليه ليس في واقع الأمر بُعدا ثالثا لفضاء يمكن قياس حجمه. وهنا يجدر بنا في هذا الصدد أن نشير إلى أنّ ما قاله بول سيزان لم يعد صالحا في فن الرسم الذي فتح عمقا غريبا عن الهندسة، كما هو عليه الحال في الفضاء أو السطح. ولكن ومع ذلك، يجب ألا ننخدع بالأصول أو المصادر السيزانية (نسبة إلى سيزان) للحركة التكعيبية. والحالُ أنه لا توجد علاقة بين رسم سيزان والرسومات التكعيبية إلا بالنسبة إلى "النظرة مثلما نعبّر عنها" حينما نستبدل القراءة بالرؤية وقصدية جرد موضوعي لانفتاح الفضاء. وتبعا لذلك، فإنّ القراءة تصطفي جملة "العلامات" التي تستدعي من خلالها موضوعات مؤهلة. إذ ذاك يكون للرؤية صدى مع "أشكال" وفق إيقاع مرتبط بتكوّن أو تشكل العمل الفني. لذلك فمن المؤكد أنه –كما يقول بول سيزان- "حينما يكون اللون غنيا يكتمل الشكل". وهذا يعني أنّ الشكل يكتمل حينما تمثّل العلاقات الملوّنة حينما تكون الأشكال معلقة. وعلى العكس من ذلك، فإن التجريد الخاص بالتكعيبية يهدف إلى استخلاص الصفات الأولية من الأشياء، وفي مقدمتها الامتداد، وجعل الصفات الثانوية تابعة لها، وخاصة اللون، من حيث هو شيء عرضي ينتظم ظهوره التصويري وفق بنيتها. والمستفاد من هذا الأمر، أنّ عناصر اللوحة هي مسطحات وأشكال ناشئة عن تقاطع سطحين وزوايا بارزة، بحيث تتخذ التقاطعات فيها طابعها ضمن حركة بنيوية تثبّته وتغلقه على نفسه ضمن دوامة من الفضاء الممتلئ. والحقُ أنّ اللوحة تتطلب موقفا معرفيا مركزيا يشملها ككلية. إنّ فضاء لوحة سيزان، وعلى العكس من ذلك، ينفتح انطلاقا من كل لمسة ويكمن في تزامنية الأفق المنفتح على بعضه البعض. وسواء تعلق الأمر بالمرتكزات الجيولوجية أو البنايات الإنسانية أو صخور ببيموس Bibémus أو القصر الأسود، فإنّ "هندستها العنيدة" منبعثة من فضاء متوتر ناتج عن تشكلات ملوّنة في اللوحة، وفضاء-وسط يكون فيه المستقر نفسه في تشكّل يبقى معلّقا.

Henri Maldiney, Ouvrir le rien. L’art nu. Paris, éditions Les Belles Lettres, 2010, p 16

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.