الرسم التكعيبي والتشخيص في الفن
تأليف: جان فرانسوا روفيل
ترجمة وتقديم: كمال بومنير
(هذه الترجمة مهداة للبروفيسور لخضر مذبوح )
جان فرانسوا روفيل Jean-François Revel فيلسوف وأديب فرنسي معاصر، وُلد عام 1924. ذو نزعة عقلانية نقدية، وهذا ما يظهر من خلال نقده للعديد من الاتجاهات والمذاهب الفلسفية التي ذاع صيتها في فرنسا منذ بداية القرن العشرين، (الهيغيلية والوضعانية والتوماوية الجديدة والوجودية والماركسية والبنيوية، الخ).من مؤلفاته: "حول بروست" 1960، "رسالة مفتوحة إلى حزب اليمين" 1968، "أفكار زمننا" 1974، "الرقابة الجديدة" 1977، "تاريخ الفلسفة، من طاليس إلى كانط" 1994. أما الأعمال التي تضمنت آراءه الفنية والجمالية، وخاصة في مجال فن الرسم يمكن أن نذكر على وجه التحديد كتابه الموسوم ﺒ "العين والمعرفة: كتابات في الفن" المنشور عام 1998.
النص:
خليقٌ بنا بادئ الأمر أن نشير إلى أنّ التكعيبية Cubisme لم تكن تجريدا كاذبا أو صادقا بل كانت –بالأحرى-واقعية بالكامل، وفي الوقت نفسه كانت –والحقُ يقال-غريبة عن التشخيص Figuration الذي سبقها وتلاها، وعن التجريد الذي نشأ تقريبا في الفترة نفسها التي نشأت فيه الواقعية Réalisme أيضا. وإنه من الضروري لنا، إذا أردنا فهم هذه النقطة بالذات، أن نميّز بين الواقعية والتشخيص. الأمر اللافت من دون شك هو أنّ الرسم التشخيصي يعاين المنظور Perspective الكلاسيكي، وهذا حتى عندما يلعب أو يتحايل قليلا معه حتى يوصف بالجدة. بيد أننا لا ننكر –بطبيعة الحال- أنّ هذا المنظور، سواء أكان هوائيا أو خطيا، يقوم بصفة عامة على خلق شروط الوهم البصري. وليس بغي ذي أهمية أن نلاحظ أنّ الواقعية هي كلمة عامة تعني أنّ شيئا أو موضوعا ما موجود وحاضر في العمل الفني. والجدير بالذكر بهذا الصدد هو أنّه من الممكن أن تكون اللوحة المرسومة تشخيصية وفي الوقت نفسه لا تعبّر عن الوعي ، مثلما نجد ذلك في العديد من اللوحات السريالية. وأما بالنسبة إلى اللوحات التكعيبية، وعلى العكس من ذلك، فهي واقعية لا تشخيصية وتفرض الموضوع من دون أن تحاول إعادة بناء وهم الإدراك الحقيقي. أضف إلى ذلك أنّ اللوحات التكعيبية قد تدّعي إمكانية فرض الموضوع بشكل أكمل وأتم من المنظور الكلاسيكي؛ معلومٌ أنّ التكعيبية قد قامت –كما هو معلوم-على ابتكارين أساسيين: أولاهما هو رسم الفضاء كشيء ممتلئ لا كشيء فارغ. وتبعا لذلك يتم وضع جرد كامل من خلال إدراج كل جوانبه أو مظاهره، وهذا في الوقت الذي كان فيه المنظور الكلاسيكي قائما على أخذ الرسّام مكانة من نقطة واحدة ومسافة محدّدة. ولا بأس أن نذّكر هنا بأنّ الرسّامين التكعيبيين يمزجون المعرفة بالرؤية. والحقُ أنّ هذا يذكرنا بما قاله بابلو بيكاسو Pablo Picasso أثناء مرحلته التكعيبية: "لو سألني رسّامٌ ما هي المرحلة الأولى الأساسية في رسم طاولة لأجبته قائلا: يجب عليك قياس الطاولة أولا". قد يسمح المنظور الكلاسيكي بمعرفة الشيء أو الموضوع من وجهة نظر نسبية. لذلك فإنه بالوسع الإشارة أيضا إلى الرسّام الفرنسي جورج براك Georges Braque، حيث كتب يقول: "على الرغم أنّ المنظور قد أخذ طابعا ميكانيكيا فإنه لا يتملك الأشياء". هذا، وبمقدورنا القول إنّ التكعيبية هي التعبير البصري عن المعرفة المتحصلة باللمس. وهنا يجدر بنا أن نورد فقرة لجورج براك يقول فيها: "يوجد في الطبيعة فضاءٌ ملموسٌ. وهذا هو الفضاء الذي أثار انتباهي كثيرا لأنّ ذلك كان من دون شك هو الرسم التكعيبي الأول الذي بحث عن هذا الفضاء" وليس ذلك فحسب، فقد أضاف قائلا: "إنه لمن أهم الأمور هنا أن نلاحظ أنّ الاتجاه الأساسي للتكعيبية قام على إضفاء الطابع المادي على هذا الفضاء الجديد الذي طالما أحسست به من قبل". وتبعا لذلك فإنه من الضروري التخلص من بعض التأويلات الخاطئة للتكعيبية. أولاهما هو الاعتقاد بأنّ التكعيبية ليست سوى إضفاء للطابع الهندسي على الطبيعة مثلما نجد ذلك عند جاك فيون Jacques Villon لأنّ المنظريْن الطبيعيْين في لوحة جورج براك الموسومة ﺒ منازل في استاكMaisons à l’Estaque (1908) ولوحة بابلو بيكاسو Pablo Picasso الموسومة ﺒ هورتا دي سان خوان Horta de San Juan(1909) قد تضمنتا مكعبات نظرا لعرضهما صور منازل. لذلك، ليس غريبا أن يعتقد البعض بأنّ الأمر هنا متعلق بالتعبير عن الأشياء بواسطة مكعبات ليس إلا. وعلى الرغم من ذلك، فإنه من البيّن أنّ الأعمال الفنية التكعيبية الكبيرة لم تتضمن مكعبات. وفي المقابل، قد نجد العديد من اللوحات المنسوبة إلى التكعيبية زورا. وربما كان في وسعنا أن نأتي هنا على مثال لوحة الرسّام أندري لوث بعنوان صورة شخصية لمارغريتPortrait de Marguerite. فمعلومٌ أنّ هذه اللوحات تحلّل الشخصية التي تم تناولها إلى مكعبات خاضعة، على الرغم مما لحقها من تغيير، للمنظور ونموذج الفني الكلاسيكي. على هذا الأساس، كان من غير الممكن إدراج لوحة بيكاسو المتميّزة الموسومة ﺒآنسات أفينيونLes demoiselles d’Avignon ضمن فن الرسم التكعيبي.
أما الخطأ الثاني الذي يجب التخلص منه أيضا فهو القول بأنّ التكعيبية ما هي إلا نزعة سيزانية Cézannisme متقدمة. والحقُ أنّ هذا الخطأ قد نجد له مبرّرا، مادام أنّ التكعيبيين أنفسهم كانوا معجبين إلى حد كبير بسيزان الذي درس الشكل وبناء اللوحة، وهذا ما لم تهتم به الانطباعية Impressionnisme من قبل، والتي تركز اهتمامها على اللون والضوء. ولكن ومع ذلك، بقي سيزان متشبثا بالمنظور الكلاسيكي الثلاثي الأبعاد. وحتى وإن عدلها فبغرض أخذ بعين الاعتبار بعض التجارب البصرية. وعلاوة على ذلك، فقد استخدم سيزان Cézanne اللون كوسيلة للوصول إلى العمق. بموازاة مع ذلك استبعد التكعيبيون في بداية الأمر اللون بصورة كلية. وحينما استرجعوه من جديد اعتبروه مجرد عنصر مستقل عن الشكل، ولا يصلح في تحديد هذا الأخير أو توضيحه [..]الخطأ الثالث والأساسي يتمثل في القول بأنّ التكعيبية كانت بداية أو منطلقا للتجريد. على العكس من ذلك، كلما جعلت المعالجة الفكرية والتحليل التصوّري للموضوع أو الشيء عملية الإدراك أمرا مستحيلا، ازداد اهتمام براك وبيكاسو لابتكار وسيلة للعودة من جديد إلى الشيء. وبغية تحقيق هذا الغرض تم استعمال الملصقات وإدماج قطعة من شيء مادي حقيقي في اللوحة والأوراق الملصقة وبعض الصفحات من الورق المقوّى حتى تمرّر عليها ريشة الرسّام والرسم الخادع المحاكي لتركيب الخشب. وعلى أية حال فبوسعنا القول إنّ الغرض من ذلك لم يكن،في حقيقة الأمر، هو الإيهام لأنه حينما يتم فصل الرسم الخادع عن المنظور الكلي لا يمكن أن يوهم المتلقي. ونرى لزاما علينا أن نشير إلى أنّ كل الطرائق التي استعملتها الواقعية التكعيبية جعلت الأشياء أكثر حضورا وملازمة من التشخيص الكلاسيكي؛ علب السجائر الفارغة، قطعة من المرآة، ورق جدران، جرائد قديمة، الخ.
Jean-François Revel, L’œil et la connaissance. Ecrits sur l’art. Paris, éditions Plon, 1998, pp 118-120.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق