قراءة موجزة في كتاب "مدخل إلى الفلسفة الاستطيقية"
قراءة موجزة في كتاب "مدخل إلى الفلسفة الاستطيقية"
لمارك شرينغهام
إنّ المتتبع لكتابات الفيلسوف الفرنسي المعاصر مارك شرينغهام Marc Sherringham سيلاحظ-من دون شك- أنّه قدّم في كتابه الهام الموسوم ﺑ "مدخل إلى الفلسفة الاستطيقية" الصادر عن دار بايو Payot الفرنسية عام 1992 (وهو كتاب لم يحظ للأسف بعناية واهتمام المشتغلين بالحقل الفلسفي في الوطن العربي على الرغم من أهميته)، أطروحة متميزة وبالغة الأهمية في الحقل الاستطيقي مفادها القول بإمكانية تطبيق مفهوم البراديغم Paradigme، الذي وظفه توماس كون Thomas Kuhn في كتابه الشهير "بنية الثورات العلمية"،كأداة للتحقيب التاريخي في الحقل الفلسفي الاستطيقي، وهذا على الرغم أنّ مجال استعمال البراديغم وتوظيفه كان في الأصل، وفق منظور توماس كون، خاصاً بالدراسات العلمية التجريبية والموضوعات المتعلقة بعلوم الطبيعة التي تعرضت لأزمات وثورات علمية، أسهمت إلى حد بعيد في تغيير نظرتنا إلى العالم بغرض معرفة دورها في تطور المعارف العلمية. هذا، ويرى شرينغهام أنه يمكن توسيع مجال استعمال البراديغم ليشمل تاريخ الفلسفة الاستطيقية أيضا. الأمر اللافت بلا شك هو أنّ مقاربته تقوم على أساس التقسيم الثلاثي للبراديغمات أو النماذج المعرفية فيما يخص دراسة تاريخ الفلسفة الاستطيقية وهي: أولا، "البراديغم الكلاسيكي" Le paradigme classique الذي أسسه أفلاطون في العصر اليوناني وبقي مهيمنا لفترة طويلة في حقل الجماليات حتى بداية القرن الثامن عشر. والجدير بالذكر بهذا الصدد هو أنّ الخاصية الأساسية للبراديغم الكلاسيكي تتمثل في تمركز مفهوم الجميل Le beau في البنية الميتافيزيقية والأنطولوجية للوجود. وتبعا لذلك، يمكن أن يؤطر هذا البراديغم –وفق المنظور الكلاسيكي- مفهوم الجمال ضمن البنية التي أعلت من شأن المعرفة النظرية التي كان موضوعها المركزي منصباً على البحث عن جمال الوجود، من حيث هو جواهر وصور وماهيات تمثّل الحقيقة الوحيدة على المستويين المعرفي والأنطولوجي. ثانيا، "البراديغم النقدي" Le paradigme critique الذي يمثله الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط بشكل حصري، وهو البراديغم الذي تشكل -كما هو معلومٌ- ضمن سياق التحولات التي عرفتها الحداثة الفلسفية التي قامت على إبراز مكانة الذات في مجال المعرفة وقدرتها على بلوغ الحقيقة بالنظر إلى مركزيتها المعرفية والأنطولوجية. وليس بخافٍ المكانة التي خُصّت بها الذاتُ كمرتكز لكل النشاطات الاستطيقية والفنية عند كانط، باعتبارها مصدرا ومرتكزا للحساسية الجمالية والحكم الجمالي والذوق الفني ، ولكل ما يتعلق بمفهوم أو معنى الجميل. ثالثا، "البراديغم الرومانسي"Le paradigme romantique ،الذي أسسه ودافع عنه منذ نهاية القرن الثامن عشر كل من شيلينغ وهيغل وشوبنهور ونيتشه وهيدغر. والجدير بالذكر بهذا الصدد هو أنّ المرتكز الأساسي للبراديغم الرومانسي يتمثل في القول بأنّ وظيفة الجمال الفني تتمثل، على وجه الخصوص، في الكشف عن الحقيقة انطلاقا من مقتضيات فهم وتأويل بنية المطلق L’absolu ومختلف أشكال تجلياته، وبذلك فإنّ مضمون الجمال الفني لا ينفصل عن إنتاج الحقيقة الكلية، وبخاصة بالنظر إلى دور الجمال الفني للولوج إلى الحقيقة التي أقصي منها الفن منذ لحظة تأسيس الحداثة. لذلك كانت وظيفته الأساسية تتمثل في تحقيق هذا المقصد السامي والنبيل –أي بلوغ الحقيقة- من خلال ما يتم إنتاجه من آثار فنية وجمالية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق