غايةُ الفنِ

ترجمة وتقديم: كمال بومنير

وُلد الرسّام الفرنسي جان دوبوفيه Jean Dubuffet عام 1901 بمدينة الهافرLe Havre بمقاطعة نورماندي Normandie بفرنسا. كان منذ طفولته محباً لفن الرسم، فالتحق بمدرسة الفنون الجميلة عام 1916، ثم سافر إلى باريس لدراسة هذا الفن بأكاديمية جوليان Julian . ولكنه اختار بعد ذلك أن يدرس الفن بمفرده، فغادر الأكاديمية وأنشأ مرسما في إحدى ضواحي مدينة باريس. تعرّف في هذه الفترة على بعض الرسّامين الكبار (فرناند ليجيه، أندري ماسون، خوان غري). ثم قام ببعض الجولات في بعض البلدان الأوربية كسويسرا وألمانيا وإيطاليا. ولعل ما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق أنّ جان دوبوفيه سافر بين 1947 و1949 ثلاث مرات إلى الصحراء الجزائرية، وعلى وجه التحديد إلى مدينة المنيعة التي استلهم من جمال طبيعتها وسطوع ألوانها الساحرة العديد من لوحاته. ثم عاد من جديد إلى مدينة الهافر قصد ممارسة مهنة تجارية، وهذا بعد خيبته من وضع الفن في العالم الغربي الذي بقي في رأيه مقيدا بالنزعة الأكاديمية Académisme . تميزت لوحاته بالبساطة الابتكارية، حيث عالج عدة موضوعات بأسلوب اتسم بالصدق والحدة والبساطة. غير أنه استعمل في فترة لاحقة من مساره الفني طريقة جديدة في رسم اللوحات تعتمد على مواد كالإسفنج والشحم والصحف القديمة والرمل والقطران والخشب والطين الخ، ضمن ما سمي بالفن الخام Art brut القائم على رفض المسلمات والقواعد الفنية الأكاديمية التي اتبعتها المدارس والتيارات الفنية والارتكاز على الإبداع أو الابتكار الذي يمارسه المهمشون والمعقدون نفسيا وغريبو الأطوار والمتحرّرون من القيم السائدة في المجتمعات الغربية المعاصرة. توفي جان دوبوفيه في 1985. من أبرز لوحاته: "مشاهد المترو في باريس" 1943 "الشارع" 1943، "إرادة القوة" 1946، "آثار على الرمال" 1948، "الحمار الضائع" 1959، "أجساد النساء" 1951، مسارح الذاكرة" 1970، "لا مكان" 1984.
النص:
يبدو أنَّ ميدانَ الفنِ قد شهدَ في الآونة الأخيرة، كغيره من الميادين، تحولاّتٍ خطيرةٍ على مستوى التوجه الفكري. فالقيمُ التي كانت منذ عهد طويل يقينية وغير قابلة للنقاش قد أصبحت مشكوكاً فيها، بل اعتبرها البعضُ قيماً خاطئةً. وفي المقابل، أصبحت قيمٌ أخرى -كانت في الماضي منبوذةً- تكتسي أهميةً قصوى في نظر البعض أيضا. وربما أنّ السببَ في ذلك يرجعُ إلى زيادة معرفتنا بالحضارات المسماة "بدائية" وبمختلفِ طرق تفكيرها، منذ حوالي خمسين سنة على الأقل. لقد أذهلت الأعمالُ الفنيّةُ الجمهورَ في الغرب وشغلت بالَه كثيرا. والحالُ أننا بدأنا نتساءل اليوم عما إذا كان من الممكن أن يتعلّم الغربُ دروساً من هؤلاء "المتوحشين". ويمكن في هذا السياق أن يُلاحَظ أنه في العديد من المجالات يمكن أن تكون طرقُهم وحلُولهم، التي كانت تبدو لنا في السابق بسيطة، أكثر مهارةً وبراعةً من الطرق والحلول السائدة عندنا نحن في الغرب. وعلى هذا النحو، يمكن أن تكون الرقةُ والاهتمامُ بالفكر المجرّد والعمق من نصيبهم. وربما تجدر الإشارةُ في هذا الصدد إلى أنني أقدرّ كثيرا قيم التوحّش المتمثلة في: الغريزة، الانفعال، النزوة، العنف، الهذيان. وعلينا أن نذكّر عند هذه النقطة بأنّ هذا لا يعني أنّ هذه القيم منعدمةٌ أو غائبةٌ في الغرب، بل بالعكس من ذلك تماما! وتوضيحُ ذلك أنّ هذه القيم المحتفى بها اليوم في ثقافتنا لم تعد في رأيي متناسبةً بالفعل مع الحركة الحقيقية لفكرنا. والحالُ أنّ ثقافتنا أصبحت كاللباس الذي لم يعد يليق بنا ويناسبنا تماما، وكاللغة الميّتة التي لم يعد لها ما تشتركُ به مع اللغة المستعملة في الشارع، بل الأدهى من ذلك أنها أصبحت غريبةً عن حياتنا الحقيقية، ففقدت جذورها الحيّة. إنني أتطلعُ إلى فن موصولٍ بشكلٍ مباشرٍ بحياتنا اليومية، وينطلق من هذه الحياة نفسها. من المعلوم أنّ أهم ما يميّز الغرب هو أنه قد خصّ الإنسان طبيعةً مختلفة تماما عن طبائع الكائنات الأخرى. وبذلك، لا يمكن تشبيهها ولا مقارنتها بعناصر طبيعية كالريح والشجرة والنهر، إلا على سبيل الهزل أو على مستوى التعبير الشعري فقط. وتبعا لذلك، لا يحبّذُ الغربُ تشبيه الإنسان بالشجرة أو النهر، أما "البدائي" فهو يحبّذُ ذلك ويؤمن بوجود تشابه حقيقي بين الإنسان والشجرة والنهر، بل وبتواصل كل الأشياء، وخاصة بالتواصل الموجود بين الإنسان والعالم. ولا شك أنّ المجتمعات "البدائية" تكّن احتراما كبيرا لكل موجودات العالم، ولا تعتبر –بخلاف الغرب- الإنسانَ سيِّد العالمِ Le maitre du monde ، وإنما هو مجردَ جزءِ من هذا العالم.
يعتقدُ الإنسانُ الغربيُ أنَّ فكره قادرٌ على معرفة الأشياء بصورة كاملةٍ، وأنّ العالَم يسير وفق هذا النمط من الفكر. لذلك، فهو متيقن بأنَّ مبادئَه العقلية والمنطقية مُؤسَسة بشكل سليم. أما الإنسانُ "البدائي" فهو يملك العقل والمنطق ولكنه يثق أكثر في طرق ومناهج أخرى لمعرفة الأشياء. لذا، كان من الواجب عليّ أن أعترف هنا بأنني استلهم "الهذيان" لأنني مقتنع بأنّ للفن صلة وثيقة بذلك [..]
لقد كانت غايةُ الفن منذ العهد الإغريقي إبداع الخطوط الجميلة وتحقيق انسجام الألوان بصورة جميلة. لكن ما مصيرُ الفن بعد اندثار هذه الغاية وأفولها ؟ سأجيب على هذا السؤال بقولي إنّ الفن سيعودُ من دون شك إلى وظيفته الحقيقية بأكثر فاعليةٍ من تنظيم أو تنسيق الأشكال والألوان بغيةَ تحقيق متعة المشاهِد. والحالُ أنني لم أعد اعتبر التأليف بين الألوان ودمجها قصد نيل إعجاب المشاهِد عملاً نبيلاً. ولو كان الرسمُ مرتكزا على مثل هذا التأليف لما أضعتُ وقتي في مثل هذا النشاط. فمن المعلوم أنّ الفن يتوجّه، أولا وقبل كل شيء، إلى الروح لا إلى عين الرائي. لهذا السبب لم ينل اهتمام المجتمعات "البدائية "إلا من خلال هذا المنظور، وهذا لعمري عينُ الصواب. فالفنُ بمثابةِ لغة ووسيلة للوصول إلى المعرفة وأداة تواصل بين الناس.
اعتقدُ أنّ تحمس ثقافتنا للكتابة، كما أشرتُ إلى ذلك سابقا، قد جعلتنا ننظر إلى الرسم وكأنه لغة فظة وبدائية لا تليق إلا بالأميين. وأكرّرُ ما قلته في مناسباتٍ عدة إنّ الرسمَ لغةٌ أغنى بكثير من لغة الألفاظ والكلمات. وليس من المجدي والنافع أن نبحث للفن عن أسباب أخرى تبرّر وجوده. ولعل ما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أنّ الرسم لغة مباشرة أكثر من لغة الكلمات المكتوبة، وفي الوقت نفسه هو يحمل دلالات أعمق من لغة الكلمات. ويتم هذا في هذا الفن بواسطة عبر إشارات ليست مجردة ومعنوية على غرار ما نجد ذلك في الكلمات، فإشارات الرسم قريبة جدا من الأشياء نفسها. فضلا عن ذلك، فإنّ الرسم يتحكم في مواد هي نفسها جواهر حيّة. لذلك كان بإمكان الرسم أن يذهب أبعد مما يمكن أن تصل إليه الكلماتُ في مقاربةِ الأشياءِ واستحضارها لا في شكلها المنفرد والمنفصل بل في شكلها المتصل والمرتبط بكل ما يحيط بها، وعبر عدد كبير من الأشياء في آن واحد. علاوة على ذلك، فإنّ الرسم لغة أكثر عفوية من لغة الكلمات، هي لغة قريبة من الصراخ أو الرقص، لهذا السبب كان الرسم وسيلة التعبير عن أصواتنا الباطنية، وهي وسيلة أنجع من لغة الكلمات. زد على ذلك أنّ لغة الرسم أكثر فعالية في التعبير عن الفكر في مختلف مستوياته، بما فيها المستويات الدنيا (حينما يكون الفكر في بداية نشأته) والدرجات الخفيّة لتشكل الأفكار.
للرسم ميزتان أساسيتان: الميزة الأولى، هي أنّه يستحضر الأشياءَ بقوة كبيرة ويقاربها أكثر من مقاربة لغة الكلمات. الميزة الثانية، أنه يفتح مجال الحركة الباطنية لفكر الرسّام بصورة أوسع. وحريٌّ بنا أن نشير إلى أنّ هاتين الميزتين تجعلان الرسم أداةً رائعةً لاستثارة الفكر، أو إن شئتم قولوا للرؤية. كما أنه وسيلة رائعة أيضا للتعبير عن هذه الرؤية. وينبغي الإقرار بأنه حينما يستعمل الرسمُ هاتين الوسيلتين الفعالتين، يصبح بمقدوره أن يصلَ إلى اكتشافات عظيمةٍ ورائعةٍ. كما يمكنه دفع الإنسان إلى تحقيق أساطير ورموز جديدة قصد الكشف عن عدد لا متناهٍ من الأشياء والقيم التي كان يجهلها.
Jean Dubuffet, Prospectus et tous écrits suivants. Tome 1. Réunis et présentés par Hubert Damisch, Paris, Gallimard, 1967, pp 94-96.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق