أنطولوجيا العمل الفني في الجماليات الفينومنولوجية لرومان إنغاردن" (ج2)
ليس بغير ذي أهميةٍ أن نلاحظ أنّ العمل الفني كما -أكد ذلك رومان إنغاردن في العديد من كتاباته الجمالية والفنية- غير مستقل بذاته لأنه في حاجة ماسة إلى وجود "مؤلفه" أو "مبدعه" ليحقّق فعلا طابعه الوجودي-العيني. كما أنه في حاجة أيضا إلى "قارئه" أو "متلقيه" حتى يصبح من الممكن تعيينه أو تجسيده في الواقع الملموس، حينما يثير في المتلقي أو القارئ "تجارب متنوعة من المتعة الجمالية، هي -بطبيعة الحال- مصدر القيمة الجمالية نفسها. وربما يتم لها بلوغ نوع من التطور أيضا. وإضافةً إلى ذلك، فقد تتحرك في نفس القارئ مشاعر وانفعالات متنوعة لا تنتمي بعدُ إلى مجموعة التجارب، التي يشملها العمل الأدبي (والفني) بشكل مجرد، ولكنها ليست من دون أثر فيما يتصل بإدراكه"(1). والمسألة الحاسمة في شأن مقاربة إنغاردن، هي أنّ العمل الفني عبارة عن موضوع قابل للفصل من حيث أنه يمثّل أو يشكّل كلية Une totalité، بحيث يمكن إدراك وفهم هذا العمل الفني من دون حاجة إلى موضوع آخر يُستند إليه. ويمكن أن نقول أيضا، ضمن هذا السياق، أنّ العمل الفني قابل للفصل من حيث أنه يتعالى على الأفعال والخبرات المعيشة للذات التي حملته على الوجود. ووفقا لهذه النظرة، لا يمكن اعتباره كيانا نفسانيا وإلا فإنه سيشترك مع الأفعال المعيشة للوعي فيما يخص نمط وجودها(2).
أما القول بأنّ العمل الفني يكون متعاليا على خبرة الذات، فهو –والحقُ يقال- مفهومٌ ولا يثير لبسا لأنّ العمل الفني كموضوع قصدي، لا يكون أبدا متعاليا، بالنظر إلى وجوده وماهيته، وبالقصد الذي يؤسسه. غير أنه يبقى متعاليا أو مستقلا عن الذات المدركة. أما القول بأنّ تعينات العمل الفني تكون أيضا متعالية على خبرات الذات، فهو قول قد يلتبس على الإفهام(3).
هذا، ومن المهم أن نلاحظ أنّ الموضوع القصدي من حيث هو عمل فني يحقق صفة الوجود من خلال ثلاثة جوانب أساسية وهي: أولا، إنه (أي العمل الفني) موجود عبر أساسه أو جوهره المادي. ثانيا، هو موجود أيضا من الجانب المتعلق ببنيته التخطيطية. ثالثا، بالنظر إلى تحققه الجمالي بعدما يحقق صفة التجسد أو التحقيق(4). والحقُ أنّ ما يحمل دلالةً بالغةً في هذا السياق هو أنّ هذه هي الجوانب الممكنة التي يمكن أن يظهر بها العمل الفني من الناحية القصدية لأنّ العمل الفني عند رومان إنغاردن هو موضوع قصدي خالص، وهذا يعني أنّ أسلوب وجوده يختلف عن أسلوب وجود الموضوع المثالي والموضوع الواقعي: فالعمل الفني ليس موضوعا مثاليا، لأنه موضوع مصنوع، فهو نتاج لنشاط قصدي من جانب الفنان؛ وبالتالي فإننا لا يمكن أن ننسب له وجودا، أو نعزو إليه خواصَّ كتلك التي نستخدمها في حالة تعريف الكيانات الرياضية المثالية، كالدائرة مثلا. والعمل الفني ليس موضوعا واقعيا، فهو كموضوع قصدي خالص لا يكون له معادل أو نظير موضوعي في عالم الواقع (5).
وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ التحليل الفينومنولوجي للخبرات والتجارب المعاشة الجمالية تمكنّنا، من دون شك، من معرفة أشكالها وبنيتها. والملاحظ أنّ ما قدمه رومان إنغاردن فيما يخص هذه الخبرات والتجارب الجمالية كان غنيا جدا. غير أنه يجب أن نلاحظ هنا أنّ هذا الأخير كان حريصا على إبراز جوانبها الأنطولوجية لأنّ اهتمامه الأساسي في الحقل الفينومينولوجي كان منصبا على البحث في أسلوب وجودها وبنيتها الأنطولوجية دون ردها واختزالها في الذات المتعالية (6). ويقتضي هذا السياق الإشارة إلى أنّ رومان إنغاردن، حينما كان بصدد دراسة الأعمال الفنية والجمالية وفق المنظور الأنطو-فينومينولوجي فإنّ اهتماماته قد انصب على ثلاث مسائل أساسية وهي: أولا، المسألة المتعلقة ببنية ونمط وجود الأعمال الفنية سواء كانت موسيقى أو رسم أو أدب أو نحت، الخ. ثانيا، كل ما يتعلق بتلقي العمل الفني من طرف الذات المشاهدة أو المستمعة أو القارئة، وكل ما يتعلق بالتجارب الجمالية المعاشة التي ينشأ عنها ما يسمى بالموضوع الجمالي. ولأنّ العمل الأدبي والفني بوصفه موضوعا جماليا يظهر إلى الوجود فإنه ينبغي أن "يحدّد" من جانب القارئ (أو المتلقي) لأنّ العمل سيكون لا محالة تخطيطيا أو غير محدّد في عدد من الاعتبارات. فالشخصية الروائية، مثلا، لا يمكن أن توصف تماما. وعلى القارئ أو المتلقي أن يملأ أية فجوة وكل غياب للتحديد في الوصف إن أريد للشخصية أن تكون حية على الورق. مثل هذا التحديد ينبغي أن ينفذ على نحو متكرر إن أريد للعمل أن يخلّد. ورغم أنه يمكن أن ينفذ على المستوى الفردي فقط فإنّ إنغاردن اعتقد أنّ بعض التحديدات كانت أكثر ملائمة من سواها وأنّ العمل نفسه مارس توجيهات على نحو لم يكن فيه التحديد ذاتيا تماما(7). ضمن هذا السياق يعتقد إنغاردن أنه يتعين على المتلقي أن يتخذ موقفا جماليا تجاه المظاهر المرئية أو المصوّرة على اعتبار أنّ الجانب الذاتي الممثل في المتلقي، شرط أساسي حتى "تنبثق" أو "تتجلى" الإمكانات التي يتضمنها الموضوع القصدي الجمالي. لهذا السبب فإنّ "الموضوع الجمالي كموضوع قصدي فيكون نتاجا للتفاعل بين المرسِل عبر العمل الفني (قصد الفنان) والقصد المستقبِل (قصد المدرِك أو المتلقي). وهكذا، فإنّ الموضوع الجمالي يكون بمثابة حلقة الاتصال الفعلية بين المدرِك والفنان، أما العمل الفني فهو أداة هذا الاتصال"(8). ثالثا، ما يتعلق بالقيم الفنية والجمالية التي تتضمنها الأعمال الفنية وما تحدثه على المستوى الإنساني من تذوق فني ومتعة وخبرة جمالية وأثرها في حياة الإنسان(9). هذا، ويمكننا القول على السبيل المثال، إنّ رومان إنغاردن حينما قام بتحليل العمل الفني والجمالي كان قد أشار إلى مسألة هامة تتعلق بطبيعة هذا العمل، بالنظر إلى التجربة أو الخبرة الفنية والجمالية.
الهوامش:
(1)رومان إنغاردن، العمل الفني الأدبي، ص390.
(2)Patricia Limido-Heulot, « Sens et limites de l’analyse ontologique dans l’esthétique de Roman Ingarden , p 9.
(3)سعيد توفيق، الخبرة الجمالية. دراسة في فلسفة الجمال الظاهرتية. القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، 2015 ص 339.
(4)Victor Kocay, « L’axiologie d’Ingarden » Revue Philosophiques, vol XXII, numéro 1, 1995, p 36.
(5)سعيد توفيق، الخبرة الجمالية. دراسة في فلسفة الجمال الظاهرتية، ص329.
(6)« Il apparait ainsi, qu’une certaine priorité devrait être octroyée à la conscience pure. Mais en même temps, cette priorité prend une tournure métaphysique en soutenant la thèse de l’existence absolue de la conscience pure et d’autre part la dépendance ontologique de tout autre étant et en particulier du monde réel, par rapport à la conscience pure. Le danger d’une petitio pricipii est bien écartée par la réduction phénoménologique, mais elle mène à la conception de l’existence du monde qui se rapproche dangereusement du Kantisme » Roman Ingarden, dans Ingarden-Husserl. La controverse Idéalisme-réalisme, p 37.
(7) ك. م . نيوتن، نظرية الأدب في القرن العشرين، ترجمة عيسى علي العاكوب، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، 1999، ص77.
(8)سعيد توفيق، الخبرة الجمالية. دراسة في فلسفة الجمال الظاهرتية، ص338.
(9) Patricia Limido-Heulot, « Sens et limites de l’analyse ontologique dans l’esthétique de Roman Ingarden , p 13.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق