الشكل الفني والتجريد من منظور روبير دولوني
تأليف: روجيه غارودي
ترجمة: كمال بومنير

الأضواء الكهربائية لمدوّرة معرض الأطفال لحظة انبهار العين والصور المضيئة الناشئة عن إثارتها. وبذلك، ومن برج إيفل نفسها، ومن لوحة إلى لوحة لم تبق سوى البنية الضوئية. والحقُ أنّ دولوني كان يبحث -أولا وقبل كل شيء- على كيفية التعبير عن الحيوية التي كانت تنشط السهم اعتمادا على وسائل تكعيبية أي: فصل الأحجام ثم إعادة بنائها من جديد بواسطة إيقاع يعطي للحركة طابعا حسيا ثم التعبير عنه أخيرا بواسطة حركة الضوء نفسها. وفضلا عن هذا، فقد ارتبطت المراحل الأخيرة التي قطعها دولوني قبل أن يتعدى "عتبة التجريد" الخالص بتجربة حركة الحياة الحديثة وتوجيه الضوء المترتب عن السرعة والمتمثل على وجه الخصوص في: السيارة، المترو، المصعد الكهربائي، الطائرة، الواجهات الزجاجية، الإشارات والأضواء التي تتحوّل بسرعة كبيرة وفي كل الاتجاهات، بحيث لم نعد نرى سوى شُهب أو صواريخ وتقزحات أو حُزم واسطوانات. وعلى هذا النحو، استخلص دولوني من هذه التجربة البصرية الخاصة بالحياة الحديثة نتيجتين وهما: أولاها، أنّ للضوء بنية مستقلة عن الأشياء التي يتحرك فيها أو يستقر. والثانية، أنّ الضوء ليس واقعا ثابتا وإنما يحمل في ذاته إيعاز الحركة. وبذلك، فهي عبارة عن مبادئ شاعرية اللون عند دولوني. لقد عبّر هذا الأخير في لوحة "تحية لبليريو" Blériot عن هذا الاكتشاف بشكل جديد في التفاعل مع العالم والتعبير عنه. أما العنصر الأساسي في بناء هذه اللوحة هو التحليل الطيفي لمجازفات شعاع ضوئي مجزأ ومنكسر لا بطيف شمسي ولكن بدوران مروحة الطائرة. والحقُ أنّ دولوني قد استعاد هذا الموضوع مرات عديدة مثلما فعل ذلك في عام 1923 لما نظم اللوحة الفنية وفق الشكل الحلزوني للمروحة، بحيث ألغى كل إحالة تشخيصية للطائرة محتفظا بحركة المروحة فقط، بصرف النظر عن شكلها، وعبر عدة أسطوانات ملوّنة.
هذا، وقد انطلق دولوني في لوحة "تحية لبليريو" من الانطباع البصري المألوف للمطار حينما، وقبل اكتشاف المحركات النفاثة، كانت تدار بعض محركات الطائرات في آن واحد، وطائرات أخرى كانت تقلع أـو تنزل، إذ ذاك كان المَدرج والسماء يريان من خلال حركة المروحيات في مقابل الشمس بواسطة عجاج بحيث لم تعد سوى باقة زهر لامعة. ولكن ومع ذلك فإنّ دولوني لم يُفقر الواقع وإنما أعطاه طابعا شعريا من خلال استحضار ذلك العصر الأسطوري لخلق العالم حينما كان الضوء منفصلا تماما عن الظلمات.وفضلا عن هذا، إذا كان الضوء يقضي على أشكال الأشياء فإنه في الوقت نفسه يحمل نظامها وحركتها. وبدلا من الواقعية النفعية لليومي سينشأ واقعٌ آخر، شاعريٌ وأسطوري مكوّن من أقواس قزح [..]
معلومٌ أنّ مسار دولوني الفني كان قد بدأ مع الحركة التعبيرية التي أشادت بالضوء مضحية في ذلك بالموضوع والأشكال. ولا شك أنّ التطبيق المنظّم للألوان ولا سيما لقانون "التباينات المتزامنة" لشوفرول Chevreul من طرف سورا Seurat كان بالنسبة إليه درسا حاسما. والحقُ أنّ كل الأعمال الفنية التي أنتجها دولوني في مرحلة نضجه وخصوصا لوحة "تحية لبليريو" قد تأسست على هذه القوانين المعمارية للألوان. ومن هنا نشأت ما كان يسميه غيوم أبولينير Guillaume Apollinaire ﺑ "الأورفية" Orphisme. وبذلك، فإننا أصبح نتجه –كما يقول هذا الأخير- نحو فن جديد تماما، بحيث سيكون فن رسم خالصا، ومع ذلك لا يزال –والحقُ يقال-في بدايته، بحيث لم يصل بعد إلى أعلى مستوى من التجريد.وعلاوةً على هذا، فإنّ إشادة وتعظيم الوحشيين للون ورفضهم إخضاعه للموضوع قد مثّل بالنسبة لدولوني تجربتين أساسيتين، فلا غرابة، والحال هذه، أن نتتبع عبر أعماله الفنية مراحل تحرير الضوء من الأشياء والسير نحو "تجريد" الضوء انطلاقا من الواقع اليومي. وفي رسالة موجهة لكاندسكي يقول دولوني فيها: "لا زلتُ انتظر تخفيف القوانين التي وجدتها مرتكزة على البحث عن شفافية اللون المماثلة للنوتات الموسيقية وهذا ما دفعني إلى البحث عن "حركة الضوء". ومما لا شك فيه أنّ بحوث الفنانيْن (كاندنسكي ودولوني) تختلف في الشكل والمضمون معا. وقد أشار دولوني إلى هذا حينما ذكر أنّ الفكرة الثابتة التي انطلق منها كاندنسكي قد ارتكزت على الشكل (بمفهومه التكعيبي)، في حين أنّه من جهته يستعمل وسائل ومواهب حساسيته وأنه عدو الفوضى في فن الرسم. والحقُ أنّ كلمة فن تعني في رأيي –كما يقول دولوني- الانسجام والتناغم، ولا أتحدث هنا بلغة الرياضيات، علما أنني غير مهتم بالجانب الروحي ولا أتحدث عن الحركة الميكانيكية بل عن الحركة المنسجمة والمتناغمة مادام أنه يوجد شيءٌ اسمه التزامن أي العُمق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق