الحقيقة في فن الرسم
الحقيقة في فن الرسم
تأليف: جاك دريدا
ترجمة وتقديم: كمال بومنير
جاك دريدا
Jacques Derrida فيلسوف فرنسي معاصر. وُلد بمدينة الجزائر عام 1930، يعد
أحد مؤسسي الفلسفة التفكيكية، وقد حققت له شهرة عالمية، وخاصة في العالم
الأنغلوساكسوني. هذا، وتجدر الإشارة إلى أنّ التفكيك Déconstruction عند
دريدا بمثابة موقف فلسفي، الغرض منه إبطال نمط من التفكير ساد الفكر الغربي
من الحقبة اليونانية، والذي تمركز حول خطاب العقل أو اللوغوس. من أهم
أعماله:"مدخل إلى أصل الهندسة عند إدموند هوسرل" 1962، "الصوت والظاهرة"
1967،"الكتابة والاختلاف" 1967، "هوامش الفلسفة" 1972، "الحقُ في الفلسفة"
1990، "سياسات الصداقة" 1994، "معضلات" 1996، "حول الضيافة" 1997. أما
اهتمامه بالمسائل والقضايا الجمالية والفنية، وخاصة فنون الرسم والمسرح
والكتابة، فقد كان-والحقُ يقال- هاجسا حاضرا بقوة في أعماله، يمكن أن نذكر
منها كتابه الهام "الحقيقة في الرسم" الذي نشره عام 1978، وهذا الكتاب
عبارة عن قراءة تفكيكية لتحليلية الجميل وأحكام الذوق الجمالي الواردة في
"نقد ملكة الحكم" لكانط. توفي جاك دريدا عام 2004.
النص:
"إنني
أدين لكم بالحقيقة في فن الرسم ولسوف أقولها لكم" هذا ما قاله بول سيزان
Paul Cézanne (في رسالة وجهها إلى صديقه إميل مال Emile Mâle في 23 أكتوبر
1905). ما من شك أنّ هذا القول غريب حقا؛ معلومٌ أنّ المتحدث هنا رسّام
تشكيلي، إنه يتكلم، بل يكتب رسالة. والحقُ أنّ هذه "الكلمة الموفّقة" تُكتب
بطريقة أسهل مما تُقال. إنه يكتب بلغة لا تبيّن أي شيء، ولا تُظهر أي شيء،
بل ولا تصف أي شيء. وعلاوة على ذلك، فهي جملة لا تقول شيئا ما عما هو
موجود خارج الحدث الذي تشكله ولكنها تلزم الموقّع بقول يسميه منظرّو أفعال
اللغة Speech acts هنا الفعل "الإنجازي" Performatif. ليس من شك أنني لن
استعير منهم هنا الآن سوى بعض التسهيلات التقريبية، وعناوين مشكلات من دون
معرفة ما إذا كانت هناك ما يُسمى بالأفعال "التقريرية" وأفعال "إنجازية"
خالصة. ولكن، ماذا فعل بول سيزان؟ لقد كتب ما كان من الممكن أن يقوله،
ولكنه قولٌ لا يقرّر أي شيء؛ فعبارة "إنني أدين لكم" نفسها التي كان من
الممكن أن تتضمن إحالة وصفية (أقول، أعرف، أرى أنني أدين لكم) ترتبط –كما
هو معلومٌ-باعتراف بالديْن بقدر ما تصف لنا شيئا ما: إنه يوقّع. ومن
الملاحظ أنّ وعد سيزان، الذي يرتبط توقيعه بنوع من الحدث في تاريخ رسم
اللوحات الفنية قد اكتسى طابعا خاصا، ولم يعد إنجازه متوقفا على القول
بمعناه التقريري فقط، بل أصبح متوقفا على "الفعل" أيضا. إنه 'والحقُ يقال-
أصبح يعد فعلا "إنجازيا" آخر. أما مضمون الوعد فهو محدّد، بالإضافة إلى
شكله أيضا، بإمكانية الفعل "الإنجازي" الآخر. وفضلا عن ذلك، فإنّ هذه
"الإضافة" الإنجازية تصبح مفتوحة إلى ما لا نهاية. وبدون الاستناد إلى هذه
الإحالة الوصفية أو "التقريرية" فإنّ الوعد يصنع الحدث (إنه "يفعل" عبر
التلفظ) شريطة أن يضمن التأطيرُ التوافقي -أو بعبارة أخرى السياقُ- إمكانية
ذلك. وفي هذه الحالة، لا يمثّل الوعدُ حدثا مثل "فعل اللغة" Acte de
langage. كما أنّ الفعل الذي يشكلّه، هو أيضا "ينتج" حدثا خاصا يكون
–بطبيعة الحال-متعلقا بالبنية الإنجازية للمنطوق أو الملفوظ. إنّ الأمر هنا
متعلقٌ بوعد. بيد أننا لا ننكر أنّ موضوع هذا الوعد هو من دون شك فعل
إنجازي آخر، أي "قول" يمكن أن يكون "رسما" لا يقول ولا يصف، الخ.إذن نستطيع
الآن أن نقرّر بأنّ من أهم شروط انجاز هذا الحدث هو -بحسب المنظرّين
الكلاسيكيين- "أفعال اللغة" التي أشرنا إليها سابقا. معلومٌ أيضا أنّ بول
سيزان كان يحاول قول شيء ما. والحقُ أنّ هذا الشرط لهو جزء من تلك
التوافقات البروتوكولية، وهذا في اللحظة التي كان فيها إميل مال على وشك
فتح الرسالة التي بعثها له بول سيزان. لنفترض أنني ألفتُ هذا الكتاب بغرض
معرفة ما إذا كان من الممكن تحقيق هذا الشرط لو وُجد فعلا معنى لتحديد ذلك،
وهو أمر يحتاج إلى معرفة. ولكن وفي هذه الحالة هل لنظرية أفعال اللغة ما
يطابقها في فن الرسم؟ وهل يمكن أن يُفهم ذلك في مجال هذا الفن؟ ومثلما
تستدعي هذه النظرية دائما وبالضرورة قيم القصد والحقيقة والصدق، فمن اللازم
أن يثني بروتوكول مطلق السؤال الأول هذا: كيف يجب أن تكون الحقيقة حتى
تُستعاد في فن الرسم؟ وماذا نعني هنا بهذه الاستعادة ؟ لنفتح الرسالة بعد
إميل مال Emile Mâle ."الحقيقة في فن الرسم" ستكون عبارة عن خط سيزان نفسه.
ولكن أنّى لنا أن نعرف ذلك؟ من خلال الحدث بل الحدث المزدوج غير المحقق
يتقلّص ولكنه –والحقُ يقال-لا يتقلص مع ذاته إلا في اللحظة التي تنقسم فيه
خصوصية أو تفرّد الخط لترتبط باللعب والحظ واقتصاد اللغة. والحالُ أنه لو
وُجد اصطلاح تعبيري أو لهجة لكان من الممكن في هذه الحالة التعرّف عليها
عبر العمل الفني ومن خلال في خط سيزان، بحيث تكون هي وحدها قادرة على ضمان
وجود شكلنة اقتصادية Formalisation économique قوية فيما يخص الطابع
الإيجازي أو الاضماري Elliptique للغة الطبيعية بغرض قول أشياء كثيرة يمكن
أن تتجاوز الإضمار أو الإيجاز. لكن ومع ذلك، يبقى هناك دائما ما لا يمكن
التعبير عنه، لا بسبب كون الاصطلاح التعبيري "للحقيقة في الرسم" يتعذر
التعبير عنه، واقصد هنا -بطبيعة الحال- الاصطلاح التعبيري للعبارة نفسها
لأنّ المزدوجتين غير كافيتين للتأكد من ذلك. وعلى ذلك يمكننا القول بأنّ
الأمر متعلقٌ بالاصطلاح التعبيري الخاص بالحقيقة في الرسم وما تستند إليه
هذه العبارة الغريبة وفق مختلف المعاني.
الهوامش:
Jacques Derrida, La vérité en peinture, Paris, Les éditions Flammarion, 1978, pp 6-7.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق