فن الرسم بين فرانسيس بيكون وبول سيزان
تأليف: جيل دولوز ترجمة وتقديم: كمال بومنير
جيل دولوز
Gilles Deleuze فيلسوف وناقد أدبي فرنسي معاصر، وُلد بمدينة باريس عام
1925. كان متأثرا إلى حد كبير بنيتشه وبرغسون وسبينوزا، ولكنه استطاع أن
يشق لنفسه خطا فلسفيا أصيلا ومتميزا على الساحة الفلسفية الفرنسية منذ
الستينيات من القرن العشرين، وهذا ما يظهر بجلاء بالنظر إلى الشبكة
المفاهيمية التي وضعها (الأفهوم، الجذمور، السيمولاكر، الاختلاف والتكرار،
الهوية، الخ). وليس بخاف أنه مثّل ما يُسمى ﺒ فلسفة المفهوم لأنه كان يعتقد
بأنّ وظيفة الفلسفة الأساسية هي في إبداع المفاهيم. من أهم مؤلفاته:
"التجريبية والذاتية: دراسة في الطبيعة الإنسانية عند دافيد هيوم" 1953،
"نيتشه والفلسفة" 1962، فلسفة كانط النقدية" 1963،"منطق المعنى" 1963
"البرغسونية" 1966، "بروست والعلامات" 1966، "الاختلاف والتكرار"1968،
"سبينوزا: فلسفة واقعية"1981، "الصورة-الحركة، السينما1"1983،
"الصورة-الزمن، السينما2"1985، "فوكو" 1986. أما الأعمال التي تضمنت آراءه
الفنية والجمالية، وخاصة في مجال فن الرسم يمكن أن نذكر على وجه التحديد
كتابه الموسوم ﺒ "فرانسيس بيكون: منطق الإحساس 2002. توفي جيل دولوز عام
1995. النص:
لا شك أنّ بول سيزان Paul Cézanne ليس هو أول رسّام تشكيلي ابتكر طريقة الإحساس في فن الرسم ولكنه أول من أعطى لها هذه المكانة المتميّزة. والحقُ أنّ الإحساس هو على النقيض تماما من الشيء الجاهز والصورة السلبية ولما هو مثير وعفوي، الخ. نحن نعلم أنّ للإحساس مظهرا يتوجه نحو الذات (الجهاز العصبي، الحركة الحيوية، "الغريزة"، "المزاج"،). ويمكن أن نجد أيضا مظهرا آخر يتوجه نحو الموضوع ("الواقعة"، المكان، الحدث). أو بالأحرى ليست للإحساس مظاهر، وبذلك، فهو وجود في العالم Être au monde كما يقول الفينومينولوجيون. فقد "أكون" في الإحساس وشيء ما "يأتي" عبر الإحساس، أحدهما بالآخر، وأحدهما في الآخر كما يقول هنري مالدينيه Henri Maldiney، أو إلى حد ما، الجسم نفسه هو الذي يعطي هذا الإحساس ويتلقاه، من حيث هو ذات وموضوع في آن واحد. أما أنا كمشاهد فلا أحس بذلك إلا حينما ألجُ في اللوحة، وأصل إلى وحدة الحاس والمحسوس. أما درس سيزان بعد الانطباعيين Impressionnistes فلا يتمثل في اللعب "الحر" أو المنفصل عن الضوء واللون (الانطباعات) وإنما الإحساس. وعلى العكس من ذلك، في الجسم نفسه، حتى ولو كان جسم تفاحة. هذا، وبمقدورنا القول إنّ اللون في الجسم والإحساس في الجسم لا في الهواء. والحقُ أنّ الإحساس هو ما تم رسمه، وما تم رسمه على اللوحة هو الجسم، لا من حيث تم تمثيله كشيء بل من حيث هو مُعاش ومحسوس. إنّ هذا لهو الخيط الهادي الذي يربط حقيقةً بين الرسّام الانجليزي فرانسيس بيكون Francis Bacon وسيزان. إنّ "رسم الإحساس" أو كما يقول بيكون بعبارة تشبه إلى حد بعيد ما قاله سيزان، من أن تسجيل الواقعة. "مسألة محكمة وصعبة لمعرفة لماذا يؤثر الرسمُ مباشرة في الجهاز العصبي". ولكن ومع ذلك، يمكن أن نلحظ الاختلافات بين الرسّاميْن؛ عالم سيزان كعالم المناظر والطبيعة الصامتة Nature morte قبل الصور الذاتية نفسها التي عالجها كمناظر طبيعية من جهة، والترتيب العكسي عند فرانسيس بيكون الذي يلغي الطبيعة الصامتة والمناظر الطبيعية من جهة أخرى. أي العالم كطبيعة لسيزان والعالم كحادث مصطنع عند فرانسيس بيكون. وهنا يمكن للمرء أن يتساءل: ألا يمكن أن نرد هذه الاختلافات البارزة إلى "الإحساس" و"المزاج" ؟ أو بعبارة أخرى ألا تندرج في ما يربط بيكون بسيزان وما هو مشترك بينهما؟ لذلك فمن المؤكد أنه حينما يتحدث بيكون عن الإحساس فإنه يقصد بذلك شيئين؛ من الناحية السلبية يعتقد هذا الأخير أنّ الشكل الذي يتم رده إلى الإحساس (الصورة) هو نقيض الشكل الذي يتم رده إلى الشيء الذي من المفروض أن يمثله (التشخيص)، وعلى حد تعبير بول فاليري Paul Valery "الإحساس هو وما ينتقل مباشرة بدون لفّة أو ملل إلى رواية أو حكاية". أما من الناحية الايجابية، فقد أكد بيكون مرارا وتكرارا بأنّ الإحساس ينتقل من "نظام" إلى آخر، ومن "مستوى" إلى آخر، ومن "مجال" إلى آخر. لذلك، ليس غريبا أن يكون الإحساسُ عاملا رئيسيا في تغيير الجسم. وفي هذا الصدد، يمكن مؤاخذة الرسم التشخيصي والرسم التجريدي لأنهما يمران من خلال المخ ولا يؤثران مباشرة على الجهاز العصبي ولا يصلان إلى الإحساس، وبالتالي يعجزان عن إبراز الصورة لأنهما يبقيان في مستوى واحد فقط. وتبعا لذلك يمكننا أن نطرح السؤال التالي: ماذا يقصد بيكون ﺒ "أنظمة الإحساس" و"المستويات الحسية" و"المجالات الحسية" أو "الوحدات المتحركة" في العديد من الحوارات؟ علينا أن نقر أولا وقبل كل شيء أنّ كل نظام أو مستوى أو مجال طابقه إحساس خاص. وبالتالي بمقدورنا القول بأنّ كل إحساس هو لفظة ضمن وحدة أو سلسلة. وفي هذا السياق، يمكننا أن نذكر على سبيل المثال سلسلة الصور الذاتية لرامبرانت Rembrandt التي استطاعت أن تجذبنا إلى مجالات حسية مختلفة. وما من شك أنّ فن الرسم، وخاصة عند بيكون، يعتمد على ابتكار لوحات متسلسلة، كسلسلة صور المسيح المصلوب، وسلسلة صور البابا، وسلسلة الصور الشخصية، وسلسلة الصور الذاتية، وسلسلة الفم المبتسم، الخ. بل وأكثر من ذلك، يمكن أن تكون هذه السلسلة متزامنة، مثلما نجد ذلك في ما يُسمى ﺒ "الثلاثيات" Triptyques (أي تلك الآثار الفنية المتكونة من ثلاثة أجزاء) التي تضم ثلاثة أنظمة أو ثلاثة مستويات على الأقل. ولكن ومع ذلك، قد تكون هذه السلسلة مغلقة عندما تقوم على تركيب أو تأليف متباين. إلا أنّ ذلك لا يمنع من تُفتح من جديد عندما موصولة أو متواصلة عندما تفوق الثلاثة. لا شك أنّ كل هذا صحيح، ولكن لن يكون الأمر كذلك إذا لم يوجد شيءٌ آخر يساوي أيضا كل لوحة وكل صورة وكل إحساس. والواقعُ أنّ كل لوحة أوكل صورة، هي وحدة متحركة أو سلسلة (وليس مجرد لفظة في سلسلة). وبالتالي علينا أن نقّر بأنّ كل إحساس موجود في عدة مستويات وفي أنظمة مختلفة أو مجالات عدة. وفضلا عن ذلك، لا توجد إحساسات ضمن مختلف الأنظمة ولكن مختلف الأنظمة لإحساس واحد فقط. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ الإحساس هو الذي يشمل، في حقيقة الأمر، معظم المجالات المكوّنة. فكل إحساس وكل صورة الآن عبارة عن إحساس "متراكم" و"متكتل" مثل الحجر المتكلس. وهذا ما يفسر لنا حقيقةً ذلك الطابع التركيبي للإحساس المتعذر تبسيطه. وهنا يمكن للمرء أن يتساءل: من أين يتأتى هذا الطابع التركيبي الذي يسمح أن يكون لكل إحساس مادي عدة مستويات وعدة أنظمة أو مجالات؟ وفيما تتمثل هذه المستويات؟ وما الذي يسمح بتحقيق وحدتها الحاسة والمحسوسة؟إنّ القول بأنّ ما يحقق الوحدة المادية والتركيبية للإحساس بالموضوع المتمثل- أي الشيء الذي تم تشخيصه في الصورة- غير صحيح من الناحية النظرية مادام أن الصورة تتعارض مع التشخيص نفسه. ولكن حتى إذا لاحظنا من الناحية العملية، على غرار ما نجد ذلك في لوحات بيكون، أنّ شيئا ما مُشخص (على سبيل المثال صورة البابا الذي يصرخ) فمع ذلك، فإنّ هذا التشخيص الثانوي قائم على إبطال لكل تشخيص أولي. ولكن ومع ذلك، فقد طرح بيكون في هذه اللوحات مسألة الاحتفاظ المحتوم بما يُسمى بالصورة (العملية) في اللحظة التي توشك فيه الصورة على الانفصال عن التشخيص.


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق