حول مفهوم الجميل في فن الرسم
تأليف: أوجين دولاكروا
ترجمة:كمال بومنير

النص:
من المعلوم أنه عندما نكون أمام شيء جميل تنبهنا غريزةٌ خفيةٌ أو غامضةٌ بقيمة هذا الجميل وتدفعنا إلى استحسانه رغما عن أحكامنا المسبقة ونفورنا أحيانا. والحقُ أنّ توافق الناس الصادقين يثبت لنا –بطبيعة الحال- أنّه إذا كان جميع الناس يشعرون بالحب والكراهية وبكل المشاعر المشابهة لهما، وإذا كانوا مسحورين بالمسرات نفسها أو متألمين نفسيا، فلا شك أنهم سينفعلون ويتأثرون أيضا بالجمال. كما أنهم سيشعرون أيضا بالأذى –لا محالة- حينما سيرون القبيح وكل ما هو ناقص. فهل إحساسنا بالجميل ممكنٌ حينما نذهل عند رؤية لوحة لرافاييل Raphaël أو لوحة لرامبرانت Rembrandt على سبيل المثال؟ أو عندما نكون أمام مشهد لشكسبير Shakespeare أو كورنيل Corneille ؟ حينها سنصيح قائلين: "ما أجمل هذا الشيء !" أم يقتصر الأمر على مجرد الإعجاب ببعض الأنماط التي لا تتضمن الجمال؟ أو بعبارة أخرى، هل يمكن أن نعتبر مثلا لوحة أنتينوس Antinoüs أو لوحة فينوس Vénus أو لوحة المصارع Le Gladiateur ،أي تلك النماذج الخالصة التي نقلها لنا القدامى، قاعدة ثابتة أو قانونا لا نستطيع أن نحيد عنه خشية الوقوع في الفظاعة؟لم ينقل لنا القديم –والحقُ يقال-هذه الأنماط فقط، فلوحة سيلان Silène من دون شك جميلة، ولوحة عُطم Faune جميلة ولوحة سقراط Socrate جميلة أيضا. فمن المعلوم أنّ الرأس المرسوم (رأس سقراط) تتضمن الكثير من الجمال أيضا، وهذا رغم أنفه الصغير الأفطس وفمه الأهدل وعينيه الصغيرتين، فهو لا يلمع من خلال التناظر والتناسب الجميل للخطوط ولكنه منتعش عبر انعكاس الفكر وارتفاع داخلي. علاوة على ذلك، نستطيع أن نتصوّر بسهولة أنّ الحجارة والبرونز والرخام تتطلب التعبير عن الملامح بنوع من البساطة. وهذا ما يظهر في الصلابة والجفاء حينما نحاكيهما أثناء الرسم. والحقُ أنّ هذا الفن القائم على اللون والأثر قريب من المحاكاة المباشرة، ويبذلك فهو يقبل بالتفاصيل المؤثرة والأقل تقليدية التي تبتعد أكثر من الشكل الصارم. لقد منعت المدارس الحديثة كل ما يبعدنا عن القديم والمنظم، وهذا ما يظهر لنا من خلال تجميل لوحتي العُطم وسيلان، ومن خلال تخليص الشيخوخة من التجاعيد والقضاء على البشعات المحتومة التي تجر إليها العوارض الطبيعية والعمل في تمثيل صورة الإنسان. لقد قدّمت هذه المدارس بنوع من السذاجة الدليل على أنّ الجميل بالنسبة إليها ليس سوى سلسلة من الوصفات. ولكن ومع ذلك فقد استطاعت أن تعلّم الجميل كما يعلّم الجبر، وليس هذا فقط بل استطاعت أيضا تقديم أمثلة بسيطة فيما يخص ذلك. إنّ تقريب خصائص نموذج متفرد وطمس الاختلافات العميقة التي تفصل –في الطبيعة- أمزجة وأعمار الإنسان المتنوعة، وتجنب التعبيرات المعقدة أو الحركات العنيفة القادرة على إفساد تناغم السمات أو الأعضاء. هذه هي باختصار شديد المبادئ التي نعتقد –من خلالها- وكأننا نمسك فعلا بالجميل! وحينئذ يسهل تعليمه للتلاميذ ونقله من جيل إلى جيل آخر. والملاحظُ أيضا أنّ رؤية الأعمال الجميلة التي ظهرت عبر مختلف الأزمنة تثبت أنّ الجميل لا يتواجد في مثل هذه الشروط، فهو لا ينتقل ولا يوهب أو يورث كما تُورث مزرعة مثلا. والحقُ أنّ الجميل هو ثمرة إلهام دائب وعمل مثابر [...].
معلومٌ أنّ الرسم فنٌ متواضعٌ، لذلك يجب التوجه نحوه بدون عناء. والحالُ أنّ النظرة الخاطفة تكفيه. أما الكتاب فليس على هذه الشاكلة تماما؛ أولا وقبل كل شيء يجب اقتناؤه، وبعد ذلك يجب قراءته بالكامل. وقد يتيسر لنا فهمه بعد جهد جهيد. أما الرسم فليس إلا مجرد لحظة. لكن أليس بقدر ما توجد العديد من اللحظات بقدر ما توجد تفاصيل وأطوار إن صح التعبير في اللوحة الفنية ؟ وما الغرض الأساسي الذي يرغب أن يحققه الأديب؟ ليس من شك أنه ينتج في نهاية عمله وحدة الانطباع التي تعطيها هذه اللوحة دفعة كاملة. إنه لمن الصعب على الشاعر أن يلج ثانية في عمله، ويصعب عليه أيضا أن يتخلص منه بالكلية. فالقافية تتبعه دوما، وتنتظره أينما حل، فهناك سيد ينتظره. وعلى العكس من ذلك، فإنّ اللوحة صديق حميم يمكن أن نقدم له من حين إلى آخر رأيا أو فكرة وليس مستبدا. والحالُ أننا قد نجد قادة فاشلين يكسبون معارك وينتصرون بسبب الحظ الذي ابتسم لهم أكثر من كونهم يتمتعون بموهبة حربية. ولكننا لم نجد في يوم من الأيام فنّانين فاشلين يرسمون لوحات فنية جميلة. ففي الحرب، كما في ألعاب الميسر، يمكن أن تفي المهارة بالغرض وتساعد على تحقيقه، بل هناك حديث عن مصادفات الموهبة أحيانا. ورغم أنّ الرسّام يستخدم يديه في الرسم فإنه ليس جراحا، ولا تكمن جدارته أو استحقاقه في مهارته وخفته. والحال أنه لا يمكن أن ننكر وجود موضوعات تتضمن التفخيم كالتأبين مثلا أو الرسم التذكاري، الخ. وحينها ينظر الرسّام إلى المَلون (لوحة ألوان الفنّان) كما ينظر المحاربُ إلى سلاحه ويشعر بالثقة والجرأة. أيها الرسّام المبتدئ هل تبحث عن موضوع ما ؟ كل ما يوجد أمامك موضوع؛ أنت نفسك موضوع، انطباعاتك وحتى مشاعرك تجاه الطبيعة. انظر إلى نفسك ولا تلتفت إلى ما يوجد حولك [...].
ولكن هل الجميلُ هو ذلك الشعور الذي ينتابنا عندما نشاهد لوحة لرامبرانت Rembrandt أو مشهدا مسرحيا لشكسبير Shakespeare مثلا، فنقول إذ ذاك ما أجمل ذلك! أم هو شعور ينتابنا حينما نرى الأنوف المستقيمة والستائر draperie المضبوطة لجيرودي Girodet وجيرار Gérard، الخ ؟ أو بعبارة أخرى، هل توجد وصفة نحقّق بها الجميل؟ إنّ المدارس (الفنيّة) تقدم الوصفات فيما يخص هذا الأمر ولكنها لا تنتج أعمالا تجعلنا نقول " يا له من شيء جميل"! لقد حقّق الرسّام التشكيلي روبنس Rubens مطلب الجميل عندما رسم حوارييه في لوحة "صيد السمك المعجزي" Pêche Miraculeuse. والحقُ أنّ القديس بولس هو صاحب اليدين الغليظتين الذي خاطبه السيد المسيح قائلا: "اترك الشبكة هنا واتبعن: سأجعلك صيّاد البشر." أما رفائيل Raphaël فقد وضع في لوحته الرائعة السيد المسيح لوحده والحواريين مقابلين له. في حين أنّ القديس بولس كان جالسا على ركبتيه متسلما مفاتيح. والحالُ أنه لا يسعنا إلا أن نشعر بالإعجاب حينما نرى ذلك، إنه –والحقُ يقال- لمشهد رائع حقا. لكن، وعلى العكس من ذلك، تضمنت لوحة روبنس خطوطا منكسرة ومفككة وستائر تفتقد إلى الأناقة حقا، ولا شك أنها قد تشوّه خصائصها الرائعة والبسيطة، ولكنها أجمل من هذه الناحية. وبهذا الصدد يجب علينا أن نتساءل: هل الجميل موجود في هذين العملين؟ نقول نعم، وفي درجة واحدة، ولكن، وفي الوقت نفسه، بمعانٍ مختلفة. فالأسلوب ظاهر في كليهما لأنّه يكمن في أصالة المميزات الخاصة في الرسميْن. ومع ذلك قد نحاكي بعض الطرائق حتى تستوي الأنوف وتضبط الستائر والخطوط، لكن من دون الارتقاء إلى أصالة وجمال أفكار رفائيل. وليس هذا فقط، بل قد نستنسخ نماذج بتفاصيلها، ولكن من دون أن نصل إلى إمكانية بعث حياة الصور من جديد،حيث ترتبط الحياة بالعاطفة أو الانفعال بالروح التي تلتحم فيها شخصيات اللوحة الموسومة ﺑ "سين" Cène للرسّام الايطالي باولو فيرونيز Paulo Véronèse .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق