أزمة الفن المعاصر
تأليف: مارك جيمنيز
ترجمة: أ. د/ كمال بومنير
لقد كان
لعبارة "فن معاصر" في الثمانينات من القرن الماضي معنى خاص في الحقل
الاستطيقي، وهذا لا يرجع-بطبيعة الحال- إلى بنائها اللغوي. والحالُ أنه
بمثل ما ارتبط مفهوم "الفن الحديث" بفكرة الحداثة La modernité مع شارل
بودليرCharles Baudelaire أو مع مشروع الفنانين الطليعيين الذين برزوا عقب
ظهور الحركة الانطباعية Impressionisme فإن عبارة "فن معاصر" لم تكن في
بداية الأمر تحيل سوى إلى مجال لم يتم –والحقُ يقال- ضبط حدوده بدقة. لذلك
فإنه بقدر ما كان معنى الحداثة واسعا من النواحي التاريخية والسياسية
والإيديولوجية والاجتماعية والثقافية، كانت كلمة "معاصر" لا تعني سوى مجرد
الانتماء إلى الزمن الراهن. لنكتفِ هنا بالاشارة إلى أنّ عبارة "فن معاصر"
هي مزيج من التطبيقات اللامتجانسة الكلاسيكية والحديثة والراهنة. غير أن
هذا لا يعني أنّ تلك التطبيقات الفنية السائدة اليوم فقط. هذا، وقد بينت
كاترين مييه Catherine Millet أنّ لعبارة "فن معاصر" تاريخها الخاص، وأنها
أزاحت تدريجيا بين 1980 و1990 تلك التسميات القديمة مثل" الطليعة" و"الفن
الحي" و"الفن الراهن". كما أنها لم تعد تحيلنا – كما أشار إلى ذلك بعض
الفنانين- إلى ما يسمى ﺒ" الفن الذي لا زال في طور تكوّنه". والحقُ أنّ
كلمة "معاصر" هنا هي مجرد صفة تقويمية بالنسبة إلى الممارسات الموروثة من
الزمن الماضي التي بقيت -من دون شك- وفيّة لأنماط التمثّل القديمة. ويكفي
أن نبحث في قائمة حركات وتجمعات وتيارات الثلاثين سنة الأخيرة، على سبيل
المثال، من مجال الرسم الفعلاني The action painting إلى الصور
الافتراضية، لندرك كيف أنّ كلمة "معاصر" تنطبق أيضا على ذلك الفن الذي كان
يدّعي دوما أنّه قادرٌ فعلا على تجديد أشكال الإبداع التقليدية. لذلك
يمكننا أن نعرف الفن المعاصر بالتحديد من خلال درجة إبداعه غير المتوقع، أو
بالأحرى بالنظر إلى مالم يسبق أن يكون له أي مثيل في الماضي. بالإضافة إلى
ميل هذا الفن إلى الصدام والاستفزاز، وهذا –بطبيعة الحال- من دون أن نحكم
سلفا بأن يُعترف به ويتم تقديره من قبل جميع الناس. أما إذا مال هذا الفن
(أي الفن المعاصر) إلى الذوبان في الحياة اليومية وإلى الاهتمام بردود
أفعال الجمهور، مُظهرا بذلك عزمه على تحقيق نوع من الطوباوية الطليعية، فمن
الممكن كما ذهبت إلى ذلك كاترين مييه "أن تكون الأعمال الفنية الأكثر
تحرّرا والأكثر غنى من حيث الإمكانيات في الوقت الذي ترفع فيه تحديات
الحداثة قد تخون دروسها". لقد كشف لنا النقاشُ الحالي حول الفن المعاصر عن
وجود تضمين مؤسساتي قوي، وهو ما يميز هذا المفهوم اليوم، حيث أصبح يحيلنا
–بطبيعة الحال-إلى أعمال فنية لبعض الفنانين الذين تم الاعتراف بهم في
"عالم الفن" الرسمي العالمي الذي أصبح من دون شك يتمتع بوضع إعلامي
واقتصادي متميّز بالمقارنة مع ما كان عليه في الماضي. من المعلوم أنّ
العهود السابقة قد عرفت نزاعات واختلافات وأزمات بخصوص الفن. ومن دون أن
نرجع إلى العصر اليوناني القديم أو إلى أحكام أفلاطون القاسية تجاه
الموسيقيين والرسامين، يمكن أن نشير -على سبيل المثال لا الحصر- إلى النزاع
الذي ساد في عصر النهضة حول ما يسمى بالمنظور La perspective وجدل القدامى
والمحدثين في نهاية القرن السابع عشر، ومعركة هيرناني Hernani المشهورة
بخصوص الدراما الرومانسية، بالإضافة إلى ردود الأفعال المعادية للحركة
الانطباعية أو الحركة الوحشيةLe fauvisme . 
( في فرنسا على وجه الخصوص) حول الفن المعاصر، وبخاصةً بعد نشر مقال في مجلة الفكر Esprit عام1991، وقد دار حول السؤال التالي: هل ما زالت توجد حقا معايير للتقدير الجمالي؟ يمكننا القول، فيما يتعلق بهذا السؤال بأنه قد وُجهت عدة انتقادات للفن المعاصر،منها على وجه الخصوص، تناقص قيمته الجمالية وضحالته، فقد تم –ضمن هذا السياق- انتقاد دعم ما يسمى ﺒ "الدولة الثقافية"، وهي أطروحة مؤرخ الفنون الفرنسي مارك فومارولي Marc Fumaroli فيما يخص أولئك الفنانين الذين اعتبروا انتهازيين أو دجالين، وبالتالي لم يقبل ذلك التوافق الذي أصبح سائدا في عالم الفن بسبب تواطؤ النقَّاد وتخليهم عن دورهم، بل واكتفائهم بضمان الترقية الإعلامية للمبدعين المتملقين فقط. ضمن هذا السياق، تعمّق الجدالُ وأخذ بعدا سياسيا عندما تلقت مجلة اليمين الجديد وهي مجلة" الأزمة" Krisis شهادة كل من السوسيولوجي جان بودريار Jean Baudrillard وجان كلير Jean Clair الذي كان يومئذ مدير متحف بيكاسو،حيث ندّد – كل بطريقته- بالفن المعاصر. لقد صرح بودريار قائلا بأن "الفن الراهن أصبح "لا يمثّل شيئا"، أما جان كلير فقد آخذ الفن الحديث والحركات الطليعية واتهمها بالتواطؤ مع النظم الشمولية التي عرفها القرن العشرين كالنازية والستالينية. هذا، وعلينا أن نشير إلى أن بودريار لم يكن متهما بالتعاطف مع أطروحات اليمين المتطرف فيما يخص مجالات الفن والثقافة والسياسة، غير أنه لم لم يكن يتوقع حجم الاستغلال الذي ذهب ضحيته جرّاء نشر مقاله. لقد ذهب أنصار الفن الراهن إلى القول بأن موقف بودريار كان مجرد استفزاز مجاني، وأن تصريحه بدا وكأنه دعم غير منتظر للأطروحات الأكثر رجعية. على كل تأكد بأن محتوى المقال الذي نُشر في جريدة التحرّر Liberation بعنوان"مؤامرة الفن" Le complot de l’art قد أضاف -من دون شك-غموضا آخر في تلك الفترة. والحقُ أنّ اتهام الفن بأنه أصبح "لا يمثّل شيئا"، ومن دون الاستناد إلى حجج مقنعة، أو إلى تحليل الأعمال الفنية نفسها هو أمر يدل على نوع من الاستخفاف بل ومن السطحية أيضا. لقد أحدث هذا المقال –في سياق تلك الأزمة- "زوبعة" فعلية. ولا يسعنا هنا إلا أن نقرّ بأنه من الممكن أنه قد أسيئ فهم ما كتبه بودريار إن لم يوضع في السياق العام للنقد الذي طورته السوسيولوجيا سنوات من قبل تجاه نموذج التقدم الذي عرفته المجتمعات الغربية. لقد كان الاتهام مرتبطا بعنف العولمة الاقتصادية والسياسية وما خلفته من نتائج سلبية(إضعاف تأثير القيم، القضاء على الاختلافات والخصوصيات). لقد ذهب الفيلسوف الألماني هربرت ماركوز في الستينيات من القرن العشرين إلى القول باختفاء مجال التسامي La sublimation الذي أخذ بعد ذلك صورة ضياع جذري للتعالي وللمثل والوهم، فأصبح العالم متجانسا وشفّافا ووُضع تأثير التبادل وتساوي كل الأشياء أدى في آخر المطاف إلى اللاإكتراث والابتذال والفظاظة. والحقُ أنّ هذه الشفافية الزائفة الخاصة بالفترة اللاحقة لما بعد الحداثة Postmodernité ، والتي يمكن وصفها على حد تعبير جيل ليبوفسكي Gilles Lipovetsky بالحداثة الفائقة Hypermodernité هي علامة – كما ذهب إلى ذلك بودريار- على بذاءة الرأسمالية الليبرالية الجديدة التي هيمنت ونتشرت بكيفية فائقة بفضل وسائل الإشهار والإعلام، بل وحتى الفن نفسه لا يستطيع أن يفلت من قبضتها " ففي هذه الحالة ما هو معنى الفن في عالم الواقعية الفائقة سلفا،خفيف الظل ،شفاف،إشهاري ؟ "كما يقول بودريار، الذي يعتبر بأنّ التهكم الذي يطالب بها الفن إن هو سوى إخفاء محزن لفقدان الأصالة والابتذال وعدم الكفاءة والعجز. والحالُ أنّ الدولة والفنانين والمشرفين على المعارضو النقٌاد والجمهور قد شاركوا في هذه المؤامرة وتسبّبوا في هذه الأزمة التي كشفت عن استحالة وجود حكم نقدي. وهكذا، انتهى النقاش وبقي ثمة غموض كبير ولم يتم التطرق إلى الانشغالات الفنية والجمالية.
وعلى أية حال، لم يسمح النقاش الذي دار حول الفن المعاصر بالإجابة على السؤال الوجيه المتعلق بمعايير التقييم الجمالي المناسبة لأشكال الإبداع الفن المعاصر بل تحوّل في أغلب الأحيان إلى جملة من المهاترات، وهذا على الرغم من أن مشكلة المعايير والحكم التقييمي من صميم اهتمامات الجمهور المواظب على زيارة مختلف الأماكن الثقافية. وبناء على هذا، وباستثناء هذا الشطط، كان ذلك النقاش –والحقُ يقال-- فرصة مناسبة للتفكير في دور الدولة الثقافي وسعيها الحثيث لدمقرطة الفن، كما أنّ النقاش قد سمح بطرح مشكلة النقد الفني الذي قلّ نشاطه بسبب المناخ التوافقي الذي أحاط بالإبداع الفني الذي لم يعد -بطبيعة الحال-متوجها إلى تغيير الوضع القائم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق