حول علاقة الرسم بالموسيقى في الاستطيقا المعاصرة
تأليف: ثيودور أدورنو
ترجمة: كمال بومنير
اعتقد أنه من نافلة القول أنّ نقّر بوجود أوجه تشابه بين فن الرسم من
جهة والموسيقى من جهة أخرى. والحقُ أنّ لغة أشكال المجتمع البرجوازي –التي
أصابها الجمود وتحولت إلى طبيعة ثانية- قد تم تفكيكها. وبذلك فإنّ الأطروحة
المناقضة لهذه اللغة أصبحت تتقوّم بجهد الوعي الاستطيقي La conscience
esthétique-حتى وإن كان غير واعٍ- بغية القضاء على ذلك العماء الناتج عن
الإيديولوجا، وبالتالي أصبح من الممكن الوصول إلى الماهية. وفضلا عن ذلك
فإنّ إهمال التشابه مع الموضوع الخاص بالفنون التشكيلية يطابق هنا إهمال
مخطط النظام الصوتي أو النغمي Ordre tonal المتضمن في الموسيقى. ولا بأس
أن نذّكر هنا بأنّ هذا النظام قد قام بالوظيفة نفسها، أي بقياس العمل الفني
الفردي من خلال ما هو خارج مشروعيته الشكلية الخاصة، ومن خلال ما تم
تأكيده أيضا على المستوى الاجتماعي، وبالتالي تم الانتقال مما هو في ذاته
إلى ما هو "من أجل الغير".هذا، وبمجرد أن يتم فصل هذه الوظيفة عن الضرورة المحايثة للبناء فإنّ الخضوع لما هو معطى مسبقا تمّ صرف النظر عنه تماما. والواقع أنه حينما ننظر إلى خطوط التطور من مسافة ما فإننا نلاحظ أنها اتبعت مجرى متوازٍ؛ والحقُ أنه أثناء المرحلة الفوضوية والثورية اعُتبر فيه نظام الطبقات مجرد مرحلة انتقالية، علما أنه قد تم وصف هذه الأخيرة عبر مفهومي الوحشية Fauvisme أو التعبيرية Expressionisme من جهة، واللانغمية Atonalité الحرة من جهة أخرى. لذلك فمن الواضح أنه كان من المنتظر أن يترتب عن ذلك نظام جديد من الناحية الفنية، وعلى وجه التحديد عبر التكعيبية Le cubisme والواقعية الجديدة Le nouveau réalisme أو الكلاسيكية الجديدة Le nouveau classicisme وتقنية نظام الاثني عشر صوتا Dodécaphonique.ليس من شك أنّه قد تم تجاوز ما تم اعتباره سابقا مجرد اختلال أو تفاوت زمني بين الفنون. وعلاوة على ذلك، ومع الاندماج المتزايد للمجتمع توحّدت المقاومةُ المتعددةث ضد قواعد لعبتها أيضا، ولم تعد الموسيقى تحذو حذو فن الرسم، وهذا على الرغم أنّه من الناحية الاستطيقية وُجد فعلا نوع من التوازن بين كل الفنون الذي كان ينم عن وجود سيطرة إدارة شمولية Totalitaireعلى المجتمع. وربما يلزمنا أن نذكر هنا أنّ فاغنر Wagner كان شاهدا على هذا التفاوت الزمني، وهذا ما تم بالفعل بعد عشرين سنة كاملة من تطوير طرائق جديدة في عمله الموسوم ﺒ ترستان Tristan التي سبقت من دون شك تقنية الرسم التي اتبعها الانطباعيون لاحقا. معلومٌ أنّ هذه العلاقة قد تغيّرت تماما بعد ظهور الحركة التعبيرية. غير أنه يجب أن نعترف في الوقت نفسهبأنّ الحركة الفنية الموسومة ﺒ الفارس الأزرق Die Blaue Reiter التي ضمت كل من بول كلي Paul Klee وفرانز مارك Franz Marc وفاسيلي كاندنسكي Wassily Kandinsky قد احتضنت موسيقى شونبرغ Schönberg وبيرغ Berg وفيبرن Webern، غير أنها لم تأخذ بعين الاعتبار الحدود الفاصلة بين مختلف المواهب الفنية الموجودة بين هؤلاء الفنّانين. وبذلك يتبيّن لنا كيف استطاع شونبرغ في هذه اللحظة الثورية الحاسمة في مساره الفني أن يرسم بكفاءة عالية. وعلاوة على ذلك يمكننا أن نتعرّف على ذلك الطابع المزدوج الذي اتسمت به لوحاته وموسيقاه، وأقصد هنا على وجه التحديد قوة التعبير والصرامة الفنية. أما ليونيل فاينينغر Lyonel Feininger فقد قام من جهته بعمل موسيقي جدي وكثيف. ومن بين الملحنين الشباب يمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر بيرغ Berg وهندميت Hindemith والحقُ يقال أنهما تميزا بموهبة بصرية متفوقة.لقد قال بيرغ –وقد كان صديقا للوس Loos وككوشكا Kokoschka- أنه كان من الممكن أن يكون مهندسا معماريا وملحنا موسيقيا أيضا.
والواقع أنّ العلاقة بين الفنون في هذه الفترة أي في عام 1918 لم تكن مرتكزة على إرادة تحقيق تزامن يشمل كل شيء وإنما بالأحرى على رغبة في التمرّد على التشيؤLa réification الذي بدأ يظهر عبر تشعب مناطق من الروح الموضوعي Esprit objectif. وفي هذه الحالة قد يتم مواجهة ذلك بالتعبير الإنساني الحي مباشرة، غير أنّ هذا التعبير كان في حاجة ماسة إلى فك ونفاذ وأنسنة كل ما هو غريب عنه وكل ما واجهه مثل موضوعه تماما. هذا، ويمكننا القول في هذا السياق بأنّ البرنامج الشوميني (نسبة إلى الملحّن الموسيقي الألماني روبرت شومان) Schumannien للرومانسية –القائل بأنّ استطيقا فن من الفنون هي أيضا استطيقا الفنون الأخرى- قد التحقت التعبيرية به أيضا. لذلك فمن المؤكد أنّ مادة بناء العمل الفني بحسب التعبيرية بل وحتى مجال التموضع الاستطيقي Objectivation esthétique لم تعد مكترثة بفكرة التجلي الخالص للذات [..]. بمقدورنا أن نقّر بوجود تفاوت حقيقي بين وسائط فن الرسم الجديد من جهة والموسيقى الجديدة من جهة أخرى. هذا، ولا بأس أن نشير هنا أيضا إلى أنّ بابلو بيكاسو Pablo Picasso –على غرار فاسيلي كاندنسكي Wassily Kandinsky- قد رفض قطع الصلة مع الرسم التشخيصي L’art figuratif. ومع ذلك، وحتى عندما بلغت الحركة التكعيبية ذروتها كانت البناءات مكوّنة من شذرات الأشياء الموجودة في العالم. وإذا كان الأمر كذلك فإنّ الأمر الأساسي هنا يكمن بالدرجة الأولى في المعرفة العميقة بأنّ كل ما هو مرئي من حيث هو تشابه يبقى مرتبطا بالعالم المرئي. وفضلا عن ذلك، وبالنظر إلى تركيب العين (بالمعنى الحرفي أو المجازي) التي تشكّل اللوحة الفنية قد تكون متطابقة تماما مع العين التي تدرك المكان. وبفضل ذلك كانت الطبيعة دائما قابلة لتحكم الإنسان فيها. وعلى هذا النحو كانت نظرة بيكاسو السامية قد عزّزت ذلك إلى أقصى حد. والحقُ أنّ هذا ما كان يحّد من حرية التصوير، بالنظر إلى الجانب اللعبي Ludique والبهلواني Clownesque، أي ذلك الفن الذي خضع من تلقاء نفسه للتهكم، ومن ثمة إمكانية نقده عندما توضع قيود للحرية. وعلاوة على ذلك، حتى النظرة التقليدية للرسّام – وهي نظرة منسجمة حقا مع الأشياء ومن ثمة تحدّد بكيفية مباشرة موهبته- تعكس شيئا من الفاعلية المتصلبة للتحكم في الطبيعة. والحقُ أنه من غير الممكن أن يتخلّص فن الرسم من ذلك إلا حينما يرفض اتخاذ موقف جدي تجاه ثقل الأشياء ولا سيادته الخاصة على هذه الأشياء في آن واحد. وعلى هذا الأساس تظهر لنا حركات البهلواني وكأنها تدفع إلى أقصى حد التحكم في عالم الأشياء بغرض الحكم لصالح الموجود. ومن ثمة يجتذب الضحك على نفسه والعالم والتحكم. ولكن ومع ذلك فإنّ هذا الأخير ينقلب، وذلك عندما ينفصل عن الأشياء، ومن ثمة يُلحق ضررا بما هو قائم. أما الموسيقى، وعلى العكس من ذلك، فهي متحرّرة مسبقا من الارتباط بالتشخيص. فمن المعلوم أنّ الأذن لا تدرك الأشياء. لذلك لا يمكن أن تحّل التشخيص وكأنه شيء غير متجانس معها ولا أن تتخلى عن التحكم في الأشياء. ولكن وفي الوقت الذي تصبح فيه مجرد لعبة بالأقنعة فإنها في هذه الحالة تتنكر لذاتها ليس إلا. وإنه لمن أهم الأمور أن نلاحظ هنا أنّ بيكاسو استطاع فعلا تجاوز العلاقة القائمة بين ذلك التواصل المتجانس وتعسّف الذات، في حين أنه بالنسبة إلى سترافنسكي Stravinski يصبح التهكم عنده شيئا غريبا تماما عن الموسيقى أي شيء غير متجانس. هذا وتجدر الإشارة إلى أنّ اللعب عند بيكاسو متعلق- من وجهة نظر استطيقية- بأعلى صورة ممكنة للتصالح Réconciliation الذي يمكن تحقيقه بين الذات والموضوع. في حين أنّ التصالح عند سترافنسكي يصبح على العكس من ذلك مجرد انحلال للذات وانتصار للموضوعية العنيفة والفجة التي ينمحي فيها الأنا من تلقاء نفسه. ومن هنا تاريخانية Historicisme سترافنسكي وصنمية جثث الثقافة، في الوقت الذي أشار فيه بيكاسو إلى أصنام بدائية بغرض إدماجها بهدوء في مشكال Kaléidoscope الحرية الذاتية. هذا، وليس من باب الصدفة البيوغرافية-النفسانية إن بقيت الكلاسيكية الجديدة Le néo-classicisme مجرد لحظة عرضية بعد القطيعة مع التشابه بالمقارنة مع المراحل الأخرى التي مرّت بها الكلاسيكية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق