أعلان الهيدر

الخميس، 19 ديسمبر 2019

الرئيسية حول مشكلة التغيير الاجتماعي في المجتمعات المعاصرة

حول مشكلة التغيير الاجتماعي في المجتمعات المعاصرة


حول مشكلة التغيير الاجتماعي في المجتمعات المعاصرة


تأليف: هربرت ماركوز
ترجمة :كمال بومنير


النص:

لقد اتضح بما لا يدع مجالا للشك أنّ الجهاز التقني في المجتمعات المتقدمة تكنولوجيا أصبح يفرض اليوم مقتضياته الاقتصادية والسياسية على أوقات عمل وفراغ الإنسان، بل وعلى الثقافة المادية والثقافة الذهنية أيضا. لذا، يتعيّن علينا أن نشير هنا إلى أنّ هذه المجتمعات تميل اليوم –بفضل تنظيم قاعدتها التكنولوجية- إلى التحوّل إلى مجتمعات شمولية Totalitaire . والحالُ أنّ هذا الطابع الشمولي ليس ترتيبا أو تنظيما سياسيا إرهابيا فقط وإنما، وبالإضافة إلى ذلك، هو ترتيب أو تنظيم اقتصادي-تقني غير إرهابي، يُدار عن طريق التحكم في الحاجات الإنسانية وفق جملة الحقوق المكتسبة، بحيث يتم استبعاد بروز معارضة فعالة ضد الكل المنظم وفق المصالح. ليس من شك أنّ هذا الطابع الشمولي ليس مجرد نظام حكم أو حزب سياسي يسعى لتحقيق نظام شمولي، بل بالأحرى وبالأساس هو نظام خاص للإنتاج والتوزيع المتوافق مع "التعددية" الحزبية وحرية الصحافة والقوى

"التعويضية"، الخ. وفي هذا المضمار، أصبحت القوة السياسية تتأكد عبر قوة سير الآلة التي تحوّل المجموع التقني لجهاز الإنتاج، لذلك أصبح من الممكن أن تحافظ حكومة المجتمعات المتطورة صناعيا أو التي هي في طريق التطوّر على تواجدها إذا تمكنت من تجنيد وتنظيم واستغلال الإنتاجية التقنية والعلمية المتاحة للحضارة الصناعية والتكنولوجية. وليس بخافٍ أنّ هذه الإنتاجية أصبحت تتجه اليوم نحو توريط المجتمع برمته، بغض النظر عن المصالح الفردية أو الجماعية. ومن هنا، يتبيّن أنّ القوة المادية التي تتمتع بها الآلة اليوم أصبحت –والحقُ يقال-تتجاوز قوة الفرد بل وحتى مجموع الأفراد أيضا. وفي هذه الحالة يمكن أن تتحوّل (الآلة) إلى الأداة سياسية الأكثر فعالية في مجتمع يقوم تنظيمه القاعدي على عمل وسير هذه الآلة. ولكن ومع ذلك، يمكن قلب هذا التوّجه السياسي لأنّ قوة الآلة ليست إلا قوة مكدّسة ومتوقعة لدى الإنسان نفسه. ومن ثمّ، وبحسب أهمية عالم الشغل المتخيل كآلة يمكن أن يتأسس مفهوم جديد للحرية.
لقد بلغت الحضارة الصناعية المعاصرة مرحلة لم يعد من الممكن تعريف "المجتمع الحر" بصورة صحيحة عبر تلك الألفاظ المألوفة،كالحرية الاقتصادية والحرية السياسية والحرية الفكرية. والحقيقةُ أنّ السبب الرئيس في ذلك لا يرجع إلى كونها مجرد ألفاظ غير ذات معنى وإنما كل ما في الأمر أنّه لم يعد من الممكن حبسها في أشكالها التقليدية. والحقُ أنّ هذا يقتضي إيجاد أنماط جديدة يمكن أن تتوافق مع إمكانيات المجتمع المتقدم تكنولوجيا. ولكن ومع ذلك، لا يمكن الكشف عن هذه الأنماط إلا عبر ألفاظ سلبية لأنّ إثباتها هو –بطبيعة الحال- نفي لأنماط الحرية الحالية. وهكذا، فإنّ الحرية الاقتصادية ستعني –ضمن هذا السياق-تلك الحرية المرتبطة بالجانب الاقتصادي، أي حرية الإنسان المتعلقة بتحديد القوى والعلاقات الاقتصادية وبالصراع اليومي من أجل البقاء وبكسب المرء لقوته اليومي. وإذا كان الأمر كذلك، لزم أن يكون معنى الحرية السياسية هو تحرير الأفراد من السياسة التي لا يتحكمون فيها بشكل فعّال، كما لزم أيضا أن تختفي السياسةُ كفرع ووظيفة ضمن التقسيم الاجتماعي للعمل. وفي هذه الحالة، سيكون معنى الحرية الفكرية هو استعادة الفكر الفردي الذي استوعبته وسائل الاتصال والتوجيه الجماهيري، وإلغاء "الرأي
العام" ومن يصنعه في الوقت نفسه. والحقُ أنّ الصدى غير الواقعي لمثل هذه الأفكار المقترحة يحمل -من دون شك- دلالة، ليس بسبب طابعها الطوباوي Utopique وإنما بسبب سيطرة القوى التي تمنع تحققها من خلال وضع شروط مسبقة للحاجات المادية والفكرية التي تديم وترسّخ تلك الأشكال البالية من الصراع من أجل البقاء. وبناء على هذا، نلحظ اليوم وجود حاجة اجتماعية لإنتاج واستهلاك ما هو غير ضروري، بما فيها ما يظهر عبر أشكال وهمية للحرية في تلك المجالات التي أصبحت فيه مضلِّلة (على سبيل المثال: حرية المنافسة في الأسعار المرتبة مسبقا، حرية التعبير بعد إقصاء كل رأي منحرف، حرية الصحافة التي تمارس الرقابة الذاتية بصورة أفضل من رقابة الدولة، حرية الاختيار بين علامات تجارية وأدوات ما.)

الهوامش:

Herbert Marcuse, Le problème du changement social dans la société technologique, traduit par Fabien Ollier, Paris, Hommisphères, 2007, p 158.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.