حول مسألة الإبداع في العمل الفني
تأليف: هنري ماتيس
ترجمة وتقديم: كمال بومنير
وُلد
الرسّام التشكيلي الفرنسي هنري ماتيس Henri Matisse عام 1869 بمدينة شاتو
في شمال فرنسا في وسط عائلي فني. تلقى دروسه الأولى في الرسم في مدينة
كوانتان دي لاتور. ثم سافر بعد ذلك إلى باريس وانضم هناك إلى أكاديمية
جوليان العريقة، ثم بعدها إلى مدرسة الفنون الجميلة. التقى ماتيس ببعض
الرسّامين وأساتذة الرسم الكبار كغوستاف مورو. انجز في هذه الفترة بعض
اللوحات المستنسخة من أعمال بعض الرسّامين الانطباعيين (بوسان، شاردن،
كورو). ثم شرع في رسم بعض اللوحات من الطبيعة الصامتة، وهذا منذ عام 1900.
غير أنّ شخصية ماتيس الفنيّة لم تأخذ مكانها الحقيقي إلا بعد انضمامه إلى
المدرسة
الوحشية Fauvisme الذي يُعتبر أحد أقطابها إلى جانب غوغان Gauguin،
وهذا منذ عام 1905. هذا، وقد اعتمد ماتيس في فنه على أسلوب تبسيطي في
الرسم نال إثر ذلك شهرة عالمية. وقد عده بعض الباحثين في الحقل الفني أكبر
رسّام فرنسي في القرن العشرين. توفي ماتيس في عام 1954. من أهم لوحاته:
"سعادة العيش" 1905، "الغجرية" 1906، "الفتاة ذات الرداء الأبيض" 1941،
"الفاكهة" 1898، " منظر كاتدرائية روتردام" "الحائط الوردي" 1897، "المرسم
الأحمر" 1911، "النافذة" 1916، "آسيا" 1946، "الرقصة" 1916،"الشبّاك
المفتوح" 1919 "الشقيقات الثلاثة" 1914، "السمكة الذهبية"1914 ، "صورة فتاة
في ثوب أصفر" 1929.النص:
الإبداعُ هو خاصيّة تميّز الفنّان؛ وحيثما لا يوجد إبداع ليس ثمة فن. غير أنه من الخطأ أن ننسب هذه القدرة الخلاّقة إلى موهبة طبيعية فقط؛ ففي مجال الفن، لا يمكن أن نعتبر المبدع الأصيل مجرد شخص موهوب، بل إنه –والحقُ يقال-شخصٌ استطاع أن يرتب وينظم وينسق جملة من النشاطات بغرض إنتاج عمل فني. وهذا يعني أنّ عملية الإبداع-بالنسبة إلى الفنّان- تبدأ من هذه الرؤية لأنّ هذه الأخيرة هي في حد ذاتها عملية إبداعية تقتضي بذل مجهود معتبر.والحقُ أنّ كل ما نشاهده في حياتنا اليومية معرّض –إلى حد ما- للتشويه الناتج عن عادتنا المكتسبة، وخاصة في عصرنا هذا الذي أصبحت تفرض فيه السينما والدعاية والمجلات يوميا ركاما من الصور الجاهزة التي يمكن اعتبارها في نظام الرؤية بمثابة حكم مسبق في نظام الفكر. ليس من شك أنّ المجهود الضروري الذي يجب بذله للتخلص من هذا الحكم المسبق يقتضي نوعا من الشجاعة التي لا يمكن أن يستغني عنها الفنّانُ الذي يجب أن ينظر إلى الأشياء المحيطة به وكأنه لم يراها من قبل. وإذا كان الأمر كذلك، يجب عليه أن ينظر إلى الحياة كلها من خلال عين طفل. أما إذا لم يتحقّق ذلك فلن يعبّر هذا الفنّان -بطبيعة الحال-عن الأشياء بأصالة ووفق منظوره الشخصي؛ وعلى سبيل المثال، يبدو لي أنه ليس هناك ما هو أصعب على الرسّام الحقيقي من رسم وردة، وذلك لأنّ رسم هذه الوردة يقتضي منه أولا وقبل كل شيء أن ينسى كل الورود المرسومة. ولطالما كنتُ أسأل ضيوفي الذين يزورونني في فينس Vence : "هل رأيتم الأقنثيات Acanthes على المنحدر بجنب الطريق؟" لم يشاهدها أحدٌ منهم. ولكن الكل تعرّف على ورقة الأقنثية فوق تاج العمود الكورنثي (متعلقة بكورنث Corinthe )، غير أنّ الذكرى حالت دون رؤية هذه الأقنثية. إنّ هذا ليمثّل الخطوة الأولى نحو الإبداع، وهذا حينما يرى الرسّامُ الأشياء على حقيقتها، غير أنّ هذا الأمر يتطلب بذل مجهودات متواصلة.معلومٌ أنّ الإبداع هو التعبير عن ما تحويه الذاتُ، وكل مجهود أصيل في عملية الإبداع هو شيء باطني، لذلك يجب أن يغني الفنّان شعوره بواسطة عناصر يستقيها من العالم الخارجي. وهذا ما يتم –بطبيعة الحال-من خلال اندماجه واستيعابه تدريجيا لعالمه الخارجي، بحيث يصبح الشيء الذي يرسمه وكأنه جزء منه أو متضمن فيه، ومن ثمّ يسقطه على اللوحة الفنية التي أبدعها. ومن هنا، يتبيّن أنّ العمل الفني هو تتويج لعمل طويل بدأه الفنّانُ، بحيث يستقى ما هو موجود أمامه من أشياء قصد بلورة رؤية نابعة من ذاته، وهذا ما يتم في حقيقة الأمر بشكل مباشر، بحيث يتم إظهار الشيء المرسوم من ناحية التأليف أو المماثلة. يترتب على ما تقدّم أنّ الفنّان يستطيع أن يبدع ويغتني باطنيا بكل الأشكال التي يتحكم فيها، بحيث يرتبها وفق إيقاعه الخاص، ومن خلال التعبير عن هذا الإيقاع يمكن أن يكون نشاط الفنّان مبدعا حقا؛ ولتحقيق هذا الغرض كان لزاما عليه أن يتجه إلى تفحص التفاصيل لا تجميعها، كأن يختار على سبيل المثال في مجال الرسم، بين كل الترتيبات الممكنة، الخط الذي يظهر في صورته المعبّرة والمتضمنة للحياة؛ أي أن يبحث عن الأشياء المتساوية التي فيها نقل معطيات الطبيعة إلى المجال الخاص بالفن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق