أعلان الهيدر

الخميس، 19 ديسمبر 2019

الرئيسية الفن ﻛ "حضور" في العالم

الفن ﻛ "حضور" في العالم


 الفن ﻛ "حضور" في العالم


تأليف: موريس ميرلو بونتي
ترجمة وتقديم: كمال بومنير


موريس ميرلو بونتي Maurice Merleau-Ponty فيلسوف فرنسي معاصر ولد سنة 1908، دارت أعماله الفلسفية حول الوجود الإنساني الذي يتحدد من الناحية الأنطولوجية من خلال مفهوم الجسد وعلاقته بالعالم. أما من الناحية الجمالية، فقد اهتم ميرلوبونتي بفن الرسم مبينا ارتباطه بالبعد الأنطولوجي وبرؤية العالم وبإمكانيته الكشف عن حقائق التجربة الإنسانية التي تعجز المعرفة العلمية عن الوصول إليه، وهذا ما تبينه لنا اللوحات الفنية، وخاصة لوحات بول كلي وهنري ماتيس، من أهم أعماله:

"بنية السلوك" 1948، "فينومينولجيا الإدراك" 1945، "المعنى واللامعنى" 1948، "ثناء على الفلسفة" 1953، "مغامرات الجدلية"1955، "علامات" 1960 "المرئي واللامرئي" 1964، "نثر العالم" 1968، "علوم الإنسان والفينومنولوجيا" 1975. أما الأعمال التي تضمنت آراءه الفنية والجمالية، وخاصة في مجال فن الرسم يمكن أن نذكر على وجه التحديد كتابه الهام الموسوم ﺒ "العين والفكر" المنشور في عام 1960. توفي موريس ميرلو بونتي عام 1961

النص:

ليس هناك أدنى شك في أنّ سعينا لإحياء العالم المدرك المختفي عبر رواسب المعرفة والحياة الاجتماعية، قد دفعنا في كثير من الأحيان إلى اللجوء إلى فن الرسم لأنّ هذا الأخير يضعنا أمام حضور العالم المعيش Le monde vécu. والحقُ أننا نلاقي العديد من الأشياء (حبات ليمون، مندولينات، عناقيد عنب، علب سجائر) عندما ننظر إلى لوحات بول سيزان Paul Cézanne وخوان غريس Juan Gris وجورج براك Georges Braque وبابلو بيكاسو Pablo Picasso وبأشكال مختلفة، بحيث لا تقع تحت الأنظار كأشياء "معروفة" لدى المشاهد، بل وعلى العكس من ذلك، توقفه وتسائله وتنقل له –بنوع من بغرابة- مادتها الخفية ونمط مادتها، التي "تنزف" أمامنا. وتبعا لذلك فإنّ فن الرسم سيوصلنا إلى رؤية الأشياء نفسها. وعلى العكس من ذلك، فإنّ فلسفة الإدراك التي تريد أن تتعلّم من جديد رؤية العالم ستعيد من دون شك لفن الرسم وللفنون بصفة عامة تلك المكانة الحقيقية، ومن ثمة ستهيأ لنا قبولها في صورتها الخالصة. وهنا يمكن للمرء أن يتساءل ما عما تعلمه فعلا من النظر إلى عالم الإدراك ؟ الواقع أنّ ما تعلمه –فيما يخص هذا العالم-هو أنّه يستحيل الفصل بين الأشياء وكيفية ظهورها؛ حينما أريد تعريف الطاولة مثلا، ولاسيما بالاعتماد على القاموس، سنجد-بطبيعة الحال- أنها لوحة أفقية ترتكز على ثلاث أو أربع ركائز، يمكن أن تُستعمل في الأكل أو الكتابة، الخ- فإنني سأشعر –حينئذ- وكأنني استطعت أن أدرك ماهية هذه الطاولة، ومن ثمة أغض النظر عن الأعراض المرتبطة بها، كشكل الأرجل وأسلوب بروز زينة الطاولة. ولكن، لا يمكنني اعتبار ذلك إدراكا بل مجرد تعريف. والحقُ أنني هنا لا أغض النظر عن "كيفية" أدائها لدورها كطاولة لأنّ ما كان يهمّني بالدرجة الأولى هو تلك الطريقة الفريدة التي تحمل فيها اللوحة والحركة الفريدة من الأرجل إلى اللوحة التي تعارض بها الثقل والتي تجعل كل طاولة متميزة حقا عن غيرها من الطاولات. ولن نجد هنا تفاصيل ذلك، أي من خلال ألياف الخشب وعمره وشكل الأرجل ولون الخشب، والخطوط أو الخدوش التي تحدّد عمر هذا الخشب، ومن ثمة فإنّ مجال اهتمامي في كل ذلك كان منصبا في حقيقة الأمر على دلالة "الطاولة" حينما تنبثق من كل هذه "التفاصيل" التي تجسّد كيفية حضورها. وما من شك أنه حينما اهتم بعملية الإدراك استطيع فهم العمل الفني لأنّ هذه الأخيرة تمثّل كلية جسدية لا تكون فيها الدلالة حرّة إن صح التعبير، ولكنها تكون مرتبطة ومقيدة بكل العلامات والتفاصيل التي تُبرزها هذه الأخيرة، بحيث يمكن رؤية أو سماع العمل الفني على غرار الشيء المُدرك. ومن ثمة لا يمكن لأي تعريف أو تحليل –مهما كانت أهميته- أن يقوم مقام هذه التجربة الإدراكية والمباشرة التي أقوم بها. والحقُ أنّ هذا ليس أمرا جليا بالمرة لأنّ في أغلب الأحيان قد يُطرح السؤال التالي: هل تمثّل اللوحة الفنية-كما يُقال- موضوعات ما؟ في كثير من الحالات تمثّل الصورة الشخصية Portait شخصا ما رسمها الفنّان التشكيلي نفسه. ومع ذلك أليس بإمكاننا القول بأنّ اللوحة الفنية المرسومة شبيهة بتلك الأسهم التي نجدها عند محطة القطار والتي تدلنا على كيفية الخروج من المحطة أو ساحته؟ أو لتلك الصور الفوتوغرافية الدقيقة التي تسمح لنا فعلا بفحص الموضوع رغم غيابه وتحتفظ بما هو أساسي فيه ؟ إذا كان الأمر بهذا الشكل فسيكون غرض فن الرسم مجرد رسم خادع. وفي هذه الحالة ستتحدد دلالته وفق ما هو موجود خارج اللوحة الفنية، أي في الأشياء التي يدل عليها، أو بعبارة أخرى في "الذات" Le sujet. ولكن، والحقُ يقال، إنّ فن الرسم الصحيح قد تشكل ضد هذا التصور نفسه، بل إنّ الرسّامين التشكيليين
أنفسهم قد قاوموا هذا التصوّر بصورة واعية منذ مائة سنة من زمن على الأقل؛حسبنا أن نشير هنا إلى ما قاله جواكيم غاسكي Joachim Gasquet أنّ بابلو بيكاسو طالما كان يردّد بأنّ الرسّام يدرك جانبا من الطبيعة "ويحوّله إلى لوحة فنية بكل تأكيد. وربما كان في وسعنا أن نشير هنا إلى أنّه، ومنذ حوالي ثلاثين سنة، قال جورج براك بأنّ فن الرسم لا يهدف إلى "إعادة تشكيل واقع قصصي" وإنما بالأحرى "إعادة تشكيل واقع تصويري". وتبعا لذلك لن يكون فن الرسم مجرد محاكاة للعالم بل هو نفسه عالم قائم بذاته. وهذا يعني أنّه، وفيما يخص تجربة اللوحة الفنية، ليس هناك أي رد للشيء الطبيعي. علاوة على ذلك نلاحظ أنّه لا توجد في التجربة "الجمالية" الخاصة بالصورة الشخصية لا إشارة أو علامة عن "تشابهها" للنموذج (لاشك أنّ طالبي رسم صورهم الشخصية يريدون أن تكون في أغلب الأحيان مشابهة لهم تماما، ولكن والحقُ يقال أنّ هذا الأمر مرتبط هنا أكثر بشعورهم بنوع من الغرور لا بحبهم لفن الرسم ذاته). وقد يطول الكلام إذا ما حاولنا معرفة لماذا لا ينتج الرسّامون – ضمن هذه الظروف- موضوعات شعرية غير موجودة، كما فعلوا ذلك أحيانا. وهنا قد نكتفي بالإشارة إلى أنّ هؤلاء الرسّامين، حتى وإن اشتغلوا بموضوعات حقيقية، لن يكون هدفهم، بكل تأكيد، استدعاء الموضوع نفسه، وإنما بالأحرى إبداع مشهد على اللوحة يكون مكتفيا بذاته. والحقُ أنّ التمييز بين موضوع اللوحة الفنية وكيفية رسم الفنّان هذه اللوحة لم يعد اليوم مشروعا لأنّه،وبالنظر إلى التجربة الجمالية Expérience esthétique يكون الموضوع بحسب الكيفية التي يرسم فيها الفنّان عنقود عنب أو غليون أو علبة سيجارة على اللوحة. ولكن هل معنى ذلك أنّ ما يكتسي أهمية حقا في مجال الفن هو الجانب الشكلي لا ما نقوله؟

الهوامش:

Maurice Merleau-Ponty, Causeries 1948, établies et annotées par Stéphanie Ménasé, éditions Du Seuil, 2002, pp 53-55.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.