حول الآلات الموسيقية: مقاربة فلسفية
تأليف: برنار سيف
ترجمة وتقديم: أ.د/ كمال بومنير
برنار
سيف Bernard Sève فيلسوف فرنسي معاصر ولد عام 1951، متخصص في الجماليات
وفلسفة الفن وباحث مهتم بالقضايا الدينية والميتافيزيقية، وهو أيضا من أهم
الباحثين الفرنسيين الذين أولوا لفلسفة الموسيقى اهتماما خاصا، وهذا ما
يظهر في غزارة وخصوبة إنتاجه المعرفي في هذا الحقل الفسفي والفني الذي لم
ينل الاهتمام الكافي من طرف المتخصصين في الدراسات الفلسفية. من أهم مؤلفات
برنار سيف: "المسألة الفلسفية الخاصة بوجود الله" 1994، "مونتاتي: قواعد
الفكر"

2007، "من فوق إلى تحت، فلسفة القوائم" 2010. من أهم مؤلفات برنار سيف في فلسفة الموسيقى يمكن أن نشير على وجه الخصوص: "التحويل الموسيقي: ماذا يتعلم الفلاسفة من الموسيقى" 2007. وقد بيّن في هذا الكتاب أنه آن الآوان أن ينصت الفيلسوف للخطاب الموسيقي حتى يتعلم الكثير من الأشياء التي ستعينه في تأملاته وتحاليله الفلسفية. أما الكتاب الثاني فقد كان بعنوان: "الآلة الموسيقية: دراسة فلسفية" 2013. تكمن أهمية هذا الكتاب في كونه أول كتاب اهتم بدراسة الآلات الموسيقية باعتبارها مرتكزا أونطولوجيا للعمل الموسيقي.
النص:
معلومٌ أنّ الآلات الموسيقية هي التي تحافظ على حيوية الموسيقى وتعطيها طابعا واقعيا. ومعلومٌ أيضا أنّ صوت الإنسان يسهم بدوره في تحقيق هذه الحيوية وهذا الطابع الواقعي. والحقُ أنّ الآلات الموسيقية هي أولا وقبل كل شيء وسائل تقنية ماهرة تتضمن ثراء موسيقيا معتبرا.ضمن هذا السياق، يمكننا القول بأنّ الإنسانية تمتلك، بفضل الآلاف من الآلات الموسيقية التي اخترعتها وصنعتها، توثيقا ماديا كبيرا لتقنياتها ومختلف أشكال حساسيتها المرئية والسمعية ومعتقداتها وأحلامها. علما أنّ المجتمع لا يتميز بآلاته الموسيقية فقط وإنما يتميز أيضا بمؤسساته السياسية ومعتقداته الدينية. ولكن، ومع ذلك، قلما يستغني المجتمع عن الموسيقى. وبخلاف الوثيقة الأرشيفية أو الأداة التقنية المهملة أو المهجورة، المرتبطة بالجانب المعرفي والقانوني، والمنتمية إلى الزمن الماضي، فإنّ الآلة الموسيقية القديمة يمكن أن تحيا من جديد حينما يمسكها الموسيقي بيده. والحقُ أنّ التفكير في الآلة الموسيقية قد يشكل تحديا حقيقيا للفيلسوف؛ فحينما نريد دراسة آلة من الآلات الموسيقية على الوجه الأكمل (آلة النفخ بقطعة الفم (الأبوا) Le haubois، أو العود الفارسي أو الأرغن l’orgue أو الخونغ شاي الصيني Khong chai) يجب الاستعانة بالفزيائي وعالم الأصوات والمؤرخ السياسي ومؤرخ الفن والعالم الاجتماعي والعالم الموسيقي والأنثروبولوجي والمتخصص في الأعراق والعالم المتخصص في العلوم المعرفية والعالم النفساني وأحيانا عالم الآثار والمتخصص في علم الأعصاب والطبيب الرياضي والمحلّل النفساني واللاهوتي والمتخصص في العلوم الدينية ومؤرخ التقنيات وصانع الأعواد والموسيقي المحترف والملحّن وقائد الجوق وأستاذ الموسيقى. ليس من شك أنّ دراسة آلة موسيقية معينة بعمق لا يعني مطلقا التفكير في هذه الآلة لأنّ هذه الأخيرة ليست مجرد شيء أو مجموعة من الأشياء بل هي أيضا وظيفة. لذلك، فإنّ التفكير في الآلة الموسيقية يفترض بالضرورة، وبالإضافة إلى التنوع العجيب للآلات الموسيقية والسياقات الثقافية التي تستعمل فيها، منطقا أساسيا ووظيفة أساسية بل وبالإضافة إلى ذلك معنى أو دلالة إنسانية أساسية تنبعث من الآلة الموسيقية. هذا، ويمكننا أن نشير أيضا إلى أنّ الآلة الموسيقية ليست مجرد شيء تقني مصنوع وفق قواعد فنية بغرض أداء بعض المهام والوظائف الموسيقية المتعلقة بفلسفة الفن، بل هي، وبالإضافة إلى ذلك، تتضمن جملة من الخصائص الجمالية (جمال الآلة الموسيقية أو روعتها ورشاقتها) وهذا بغض النظر عن وجود علاقة تماثل ضرورية بين الجمالية المرئية Esthétique visuelle للآلة الموسيقية وجماليتها السمعية Esthétique sonore (تجدر الإشارة هنا أنّه حتى الآلة الموسيقية الجميلة يمكن أن تنتج صوتا غريبا). كأننا أمام تحدّد تظافريSurdétermination جمالي وفني للآلة الموسيقية، بحيث يكون لزاما على فلسفة الآلة أن تأخذه بعين الاعتبار أيضا. وإنني لمقتنع بأنّ فلسفة الفن تأتي دائما بعد ابتكارات وإبداعات الفنّانين. والحال أنه لولا هؤلاء الفنانين الذين ابتكروا الأشكال والموضوعات الفنية لما وجدت فلسفة الفن ما ستفكر فيه. علما أنّ المسائل التي يطرحها فيلسوف الفن متأتية من عدة مصادر؛ فالبعض منها نابع من التساؤل الفلسفي العام، الذي يطبق بعد ذلك على الموضوعات والأشكال الفنية. في حين أنّ البعض الآخر، وعلى العكس من ذلك، تثيرها تلك الموضوعات والأشكال التي أبدعها فنانون، وهي –والحقُ يقال- موضوعات وأشكال قد تبدو غريبة وملغزة إلى درجة أنها تبدو لنا وكأنها مثل بعض الظواهر الطبيعية الغريبة (الخسوف والكسوف، قوس قزح..). لذلك فإنه من الضروري أخذ بعين الاعتبار هذين النمطين من المسائل. فإذا ما اكتفينا بالمسائل "القبلية" A priori فقد نغض الطرف عن التجربة ولا ندركها، على الأقل على المستوى الفني حيث تكمن أهميتها. وفي مقابل ذلك، إذا ما اكتفينا بالمسائل "البعدية" A posteriori فإنه سيكون من الصعوبة بمكان التخلي عن تشتت التجربة ومن ثمة إنتاج مفاهيم وأطروحات تكون شيئا آخر غير مجرد نقل للتجربة. انطلاقا من هذا يمكنني القول بأنّ المنهج الذي حاولت تطبيقه مزدوج؛ بحيث هناك من جهة، مسائل فلسفية مطروحة على الموسيقي، ومسائل موسيقية مطروحة على الفيلسوف.وهكذا، فإنّ الآلة الموسيقية أصبحت تثير العديد من التساؤلات الفلسفية، كما أنّ الفلسفة من جهتها قد أثارت بعض المسائل بخصوص الآلات الموسيقية. علما أنّ معظم الأفكار التي دافعتُ عنها في هذا الكتاب قد تمت مناقشتها مع الفلاسفة بطبيعة الحال، ولكن وبالإضافة إلى ذلك، مع موسيقيين وعلماء الموسيقى. لذلك فإنني مقتنع تمام الاقتناع بأنّ كل مسألة من المسائل المطروحة في مجال فلسفة الموسيقى يجب أن تنال اهتمام الفلاسفة والموسيقيين معا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق