الإحساسُ بالجميل
برنارد بولتزانو Bernard Bolzano فيلسوف ومنطقي تشيكي، ولد في عام 1781 بمدينة براغ، وتوفي في عام 1848. كانت له العديد من الإسهامات في العلوم الرياضية، وفي فلسفة الرياضيات والمنطق. كما أنّ تأثيره في الحقل الفلسفي غير خافٍ على المتخصصين، وخاصة تأثيره في الفلسفتين التحليلية والفينومنولوجية.. أما فيما يخص أعماله الجمالية والفنية فقد تضمنه كتابُه الموسوم ﺑ "كتابات استطيقية" الذي حلّل فيه بعمق كبير مفهوم الجميل وفق منظور واقعي وانطولوجي فيما يخص مقاربة آليات إنتاج الجميل ومرتكزاته الفلسفية.كما عالج فيه أيضا موضوع الفنون الجميلة ومختلف المسائل المتعلقة بتقسيم هذه الفنون ضمن رؤية فلسفية مضادة للتقليد الفلسفي المثالي أو الرومانسي الذي كان مهيمنا على حقل الجماليات. من أهم أعمال بولتزانو أيضا: "مساهمات في العلم الرياضي" 1810، "في الرياضيات الكونية أو الجبر" 1813، "نظرية العلم" 1837، "ما الفلسفة" 1849، "مفارقات اللامتناهي" 1851، "كتابات استطيقية"1853.
النص:
علينا أن نكتشف مصدرَ إحساسنا بالجميل في ذواتنا، وخيطنا الهادي لتحقيق هذا الغرض هو حصر هذا الإحساس لدى الإنسان دون غيره من الكائنات التي تعجز من دون شك عن الإحساس بأي جمال. معلومٌ أنّ هذا الإحساس لا يتأتى مما حققه الجميلُ من ميزات لنا أو لغيرنا لأنّ مثل هذه الميزات قد تدفعنا حقا إلى تأملها على نحو ممتع. ولكن ومع ذلك فإنّ متعة الإحساس بالجميل لا يمكن أن تتأتى من هذه المتعة نفسها لأننا في هذه الحالة قد نعجز عن فهمها لكوننا قد شككنا في أن يجد البشرُ في الجميل متعةً حينما يعتبرونه مفيدا وحسنا. وفي هذه الحالة كيف يمكننا النظر إلى الجميل بنوع من عدم الاكتراث إذا حقّق لنا فائدة ما؟من هنا، يتبيّن أنّ إحساسنا يرفض هو أيضا تمثّل طبيعة الجميل وانبثاق متعتنا وتلذذنا. والحالُ أنه لو كانت فكرة النفع هي التي يثيرها فينا الشيءُ الجميلُ أفلا نكون حينئذ في وضعية تجعلنا نبحث بشكل جدي وعسير عن وعي واضح لفكرة النفع هذه التي تتردد بصورة غامضة للغاية؟ ليس من شك أننا قد نعجز عن تحقيق ذلك حقا. وعلى العكس من ذلك تماما، هناك –بطبيعة الحال- المئات من الأشياء التي نعتبرها جميلة ونتأملها بكل ارتياح وابتهاج وغبطة دون أن نستطيع وصف نفعها سواء بالنسبة لنا أو لغيرنا، وهذا حتى بعد التفكير في تبرير اختيارنا. حينئذ سيعتبر كل واحد منا- على سبيل المثال- منظر قوس قزح المتعدّد الألوان جميلا من دون أن يفكر في نفعه. كما أننا قد نعتبر الأعشاب الزاخرة بالألوان أجمل من سنابل القمح، حتى وإن كنا نعلم حقا أنّ تلك الأعشاب غير نافعة لنا وأنّ السنابل نافعة. إننا ننظر إلى النمر المفترس الذي فرّ من قفصه الحديدي بخوف ورُعب في حين أننا نتأمل جماله بمتعة وهو داخل هذا القفص. مرة أخرى أؤكد أنّ ما يكتسي فعلا أهمية هنا لا يكمن في تلك القدرة المتخيلة لشيء ما بالنظر إلى تحقيق بعض الأغراض التي تكتسي لدينا أهمية أو قيمة ما. ولكن ما سبب متعتنا حينما نعتبره جميلا ؟ واضحٌ أنّ هذا السبب لا يكمن إلا في تأملنا لهذا الشيء الجميل وما يخص معرفتنا به؛ ويظهر أنّ هذا الأمر مشروطٌ بتلك العلاقة الموجودة بين الشيء الجميل وقدرتنا المعرفية لأنّ هذا الأمر يتطلب –والحقُ يقال- هذه القدرة وينشطها وينميها. لذلك فإننا نشعر بنماء قوانا بفرح وغبطة حتى في تلك الحالات التي لا نكون فيها واعين بوضوح وجلاء. يترتب على هذا أنّ شعورنا بالفرح والغبطة هنا قد يجعلنا نتمتع حقا بتأمل الجميل. أما حينما لا نكون منشغلين بتحقيق حاجات مُلحّة وماسّة في الوقت الذي تلتقط فيه العينُ –الروحيةُ أو الجسديةُ- شيئا ما، فإنّ التمثلات الأولية ستثير انتباهنا وتدعونا إلى تأملها.
Bernard Bolzano, Ecrits esthétiques. Traduction de Carole Maigne, Nicolas Riallard, Jan Sebestik, Paris, Librairie Philosophique Vrin, 2016, p 66.


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق