كريستوف مينكه:
التجربة الجمالية وسيادة الفن
الجزء الثاني
بقلم/ أ.د كمال بومنير
ليس من شك أنّ مفهوم السلبية الاستطيقية Ästhetische Negativität مفهوم أساسي لفهم الطابع المزدوج للاستطيقا المعاصرة بالمعنى التي يفهمها ثيودور أدورنو Theodor Adorno ، أي من حيث هي خطاب مستقل من بين مختلف الخطابات، وفي الوقت نفسه بالنظر إليها من حيث هي أيضا خطاب متميز بطابعها النقدي (1). والحالُ أنه إذا فُهمت الاستطيقا من هذا الجانب، أي من حيث كونها سلبية استطيقية، ستكتسي التجربة الاستطيقية -من دون شك- طابعا مستقلا. غير أنّ السؤال الأساسي الذي يجب طرحه –بحسب كريستوف مينكه هو : ما السبيل للجمع بين السيادة والاستقلالية في مقاربة مفهوم السلبية الاستطيقية ؟ يرى هذا الأخير أنه من غير الممكن الاكتفاء بالأطر المفاهيمية والحجاجية المتضمنة في النظرية الاستطيقية لأدورنو قصد حل هذا الإشكال، وأنه بات من الضروري الاستعانة بمفاهيم وأطر نظرية أخرى يمكنها أن تسهم في حل هذا الإشكال التي أصبح –والحقُ يقال- مقلقا في الحقل الاستطيقي إلى حد بعيد . ومن بين هذه المفاهيم –بطبيعة الحال- يمكن أن نشير إلى مفهوم التفكيك La déconstruction عند جاك دريدا Jacques Derrida –كما أشرنا إلى ذلك في الجزء الأول من هذا المقال- لذلك قام كريستوف مينكه بدمج النظرية التفكيكية بالأطر المفاهيمية المتضمنة في النظرية الاستطيقية لأدورنو بغرض قراءة الاستطيقا وتجاوز معضلاتها الفلسفية. وبحسب كريستوف مينكه فإنّ الأطروحة الأساسية للاستطيقيا السلبية تكمن في القول بأنّ الاختلاف الأساسي بين الاستطيقا واللا استطيقا يتحدّد من خلال مفهوم السلبية نفسها. لذلك فإنّ من يفهم الأعمال الفنية ضمن علاقتها السلبية بما لا يمت بصلة للفن يمكنه أن يفهمها من خلال استقلالها ومنطقها الداخلي الخاص بالنظر إلى قدرتها على تجاوز الواقع بصفة عامة (2). والحقُ أنّ استطيقا أدورنو كانت قد تضمنت هذه المعاني الأساسية على الرغم من إمكانية تعدد التأويلات التي تحيط بمثل هذه المعاني والمفاهيم الفنية و الاستطيقية التي عبّرت عن هذه الاستقلالية لأنّ الاستطيقا المستقلة عند أدورنو تتسم بصفة هدّامة من حيث هي تتحدى الوضع القائم، بخلاف المنتجات التي تكتفي بالتعبير عن هذا الوضع القائم أو تعزّوه. وعلى هذا الأساس فهو يعتقد أنّ الاستطيقا السالبة Ästhetische Negativität هي من دون شك بمثابة بديل للعقل الأداتي (3)، بل هي تمثّل -وفق هذا المنظور- خلاصا من الوضع اللاإنساني الذي تعيشه المجتمعات الحداثية اليوم، لأنه أصبح -والحقُ يقال- ذلك البُعد الذي يمكنه إنقاذه ونقله إلى وضع إنساني أفضل مغاير بالكلية لما هو قائم، من حيث هو نقيض العقل الأداتي الذي اكتسى في ظل المجتمعات المتقدمة تكنولوجيا طابعا شموليا . لهذا السبب يمكن أن يمثل الفـن والجمال –في نظر أدورنو- بُعدًا آخر يتحرر من خلاله الإنسان من مبدأ الواقع القائم، لما يمكن أن يرسم فيه بُعدًا جديدًا للوجود الإنساني(4) وهكذا، فإنّ هذا البعد يؤكد التفرد والاختلاف والتميز، وبواعثه منوطة بعوامل أو شروط ذاتية. غير أنّ ما يبديه الفن المستقل من التحدي ليس مجرد سخط واحتجاج على العصر، أو إعلان وقوف مع هذا أو ذاك؛ فلو كان الأمر كذلك لكانت الطبيعة المجردة التي تتسم بها الموسيقى قد حرمتها من أن تكون فنا. وما يُعنى به أدورنو هو الكيفية التي يتخذ بها الشكل العمل الفني مواقف معينة بالعلاقة مع المجتمع (5). هذا، وتجدر الإشارة إلى أنّنا نجد لدى أدورنو –بحسب ما يرى كريسوف منكه- مفهومين للسلبية الاستطيقية. الأول، يتعلق بربط هذه السلبية بالوظيفة النقدية للفن التي يجب أن يمارسها تجاه الواقع الخارجي- أي ما يمت بصلة إلى نقد المجتمع ومؤسساته التسلطية، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وهذا على الرغم أنّ الاستطيقا نفسها أصبحت-في ظل تحكم العقل الأداتي-مهددة ومحاصرة ضمن ما يسمى بمفهوم الصناعة الثقافـية Der Begriff der Kulturindustrie التي تروج عبر وسائل الإعلام والاتصال والدعاية، من إذاعة وتلفـزيون وسينما وصحافة، التي أفرغت الفـن من وظيفته ومضمونه الحقيـقي، وحولته إلى مجرد بضاعة ووسيلة تسلية أو أداة تأثير في الناس والتلاعب بهم وبعقولهم(6). أما الثاني، فهو متعلق بتأسيس السلبية الاستطيقية من حيث هي مجال لتعزيز أو تكثيف التجربة الاستطيقية نفسها (7). ضمن هذا السياق ميزّ كريستوف مينكه بين تصورين للاستطيقا: أولا: التصوّر النقائي Puriste الذي يستند إلى مرجعية كانطية ويقوم على فكرة أساسية مفادها القول بأنّ نقاء الفن مرهون بتباعده عن الواقع بالنظر إلى ارتباطه بفكرة الحقيقة نفسها من حيث هي مقصد الفكر الاستطيقي حول الفن نفسه بحسب ما يعتقد كريستوف منكه (8) .ثانيا: التصوّر النقدي الذي يستند إلى مرجعية ماركسية جديدة Néo marxiste تنظر إلى الفن من الجانب المتعلق بسياقه الاجتماعي وبالنظر إلى ارتباطه بالحياة الاجتماعية. ضمن هذا السياق يؤكد كريستوف منكه أنه "وعلى هذا الأساس أصبح الفن في الأزمنة الحديثة مرئيا وحاضرا بل وأكثر تأثيرا من الناحية الاجتماعية بالمقارنة مع ما كان عليه في السابق، وهذا ما يتبدى لنا اليوم في حضور الفن من حيث هو شكل من أشكال التواصل"(9) . وكلا التصورين قد أثر من دون شك في النظرية الاستطيقية لأدورنو. هذا وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ التصوّر النقائي يعلي من قيمة "المتعة" Das Vergnügen الاستطيقية على حساب النقد فيما يعلي التصوّر الاجتماعي النقدي من قيمة "النقد" الاجتماعي على حساب المتعة إنّ التصوّر الخالص يحدّد "السلبية" الاستطيقية في المتعة الخالصة، والثاني يحدّد هذه السلبية في النقد الاجتماعي-الثقافي: ولكن السؤال المطروح ضمن هذا السياق هو: هل الفن متعة أم سيرورة، هل هو إشباع خالص أم نقد؟ يرى أدورنو –حسب تأويل كريستوف مينكه- أنّ كلا التصورين ناجم عن سوء فهم مما يقتضي معارضة أحدهما بالآخر(10). والحقُ أنّ هذين التصورين متضمنين في النظرية الاستطيقية لأدورنو الذي نلاحظ–والحق يقال- بعض التردد فيما يخص هذه المسألة. لذلك، فهو من جهة، ينتقد التصور النقائي الذي لا يستطيع أن ينفي-بطبيعة الحال- طابع السيروة Le caractère processuel المتضمنة في الاستطيقا. ومن جهة أخرى ينتقد التصوّر النقدي الذي لا يستطيع من جهته تجاهل المتعة الاستطيقية (11).
الهوامش:
(1 ) Christophe Menke, La souveraineté de l’Art .L’expérience esthétique après Adorno et Derrida, trad. Pierre Rusch , Paris , Edition Armand Colin 1993, p 11.(2) Christophe Menke, Die Kraft der Kunst, Suhrkamp Verlag suhrkamp taschenbuch wissenschaft, 2013, p18.
(3) -Marc Jimenez, Adorno et la modernité. Vers une esthétique négative, Paris, Editions Klincksieck, 1986, p 67
(4)- Flaurent Gaudez. «Subjectivité et intersubjectivité. De la dimension Esthétique à une sociologie des œuvres » in la postérité de l’Ecole de Francfort (dir) de Alain Blanc et J-M-Vincent, Paris, éditions Syllepse, 2004, P, 126.
(5) آلن هاو، النظرية النقدية (مدرسة فرانكفورت). ترجمة ثائر ديب، القاهرة، المركز القومي للترجمة،2010.
(6) « Il est devenu évident que tout ce qui concerne l’art, tant en lui-même que dans relation au tout, ne va plus de soi, pas même son droit à l’existence. L’infinité de ce qui est devenu possible et s’efforce à la réflexion ne compense pas la perte de ce qu’on pouvait faire de manière non réfléchie et sans problèmes. Cet élargissement des possibilités se révèle, dans de nombreuses dimensions, comme un rétrécissement ». Theodor Adorno, "Théorie esthétique", trad. Marc Jimenez, Paris Klincksieck, 1974, p 15.
(7) Christophe Menke, La souveraineté de l’Art .L’expérience esthétique après Adorno et Derrida, p 18.
(8) « Die Ästhetik als das philosophische Nachdenken über die Kunst fragt nach ihrer Wahrheit: Sie fragt danach, wie sich in der Kunst der menschliche Geist zeigt; was die Existenz der Kunst – nicht dieses oder jenes Kunstwerks – über die Herkunft, die Verfassung und das Schicksal des menschlichen Geistes sagt ». Christophe Menke, "Die Kraft der Kunst", p 9.
(9) « Noch nie in der Moderne gab es mehr Kunst, war die Kunst sichtbarer, präsenter und prägender in der Gesellschaft als heute. Noch nie war die Kunst zugleich so sehr ein Teil des gesellschaftlichen Prozesses wie heute; bloß eine der vielen Kommunikationsformen, die die Gesellschaft ausmachen: eine Ware, eine Meinung, eine Erkenntnis, ein Urteil, eine Handlung ». Christophe Menke, "Die Kraft der Kunst", p 12.
(10)عبد العالي معزوز، جماليات الحداثة. أدورنو ومدرسة فرانكفورت، بيروت، منتدى المعارف، 2011، ص147.
(11) Christophe Menke, La souveraineté de l’Art .L’expérience esthétique après Adorno et Derrida, p 20
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق