أعلان الهيدر

الأربعاء، 18 ديسمبر 2019

الرئيسية ميشيل هنري: نحو تأسيس فنومينولوجي جديد للجماليات المعاصرة (ج1)

ميشيل هنري: نحو تأسيس فنومينولوجي جديد للجماليات المعاصرة (ج1)



ميشيل هنري: نحو تأسيس فنومينولوجي جديد للجماليات المعاصرة

 الجزء الأول




تحتل الجماليات Esthétique مكانةً متميزةً في أعمال الفيلسوف الفينومنولوجي الفرنسي المعاصر ميشيل هنري (1) Michel Henry. والحقُ أنّ العديد من كتاباته قد انصبت على الجانب الجمالي والفني من منظور فينومنولوجي، باعتباره أحد أقطاب هذا التوجه الفلسفي الكبير في فرنسا وممثليه الأساسيين منذ ستينيات القرن العشرين. هذا، وينطلق ميشيل هنري في نظريته الفينومنولوجية، -فيما يخص البعد الجمالي والفني- من فكرة أساسية وهي أنّ الجماليات هي نمط من المعرفة النظرية التي ينصب موضوعها حول الواقع الجمالي باعتباره إحساسا ومحسوسا به، ومن حيث هو مجال كل إبداع فني وجمالي يمكن تحقيقه. وفضلا عن ذلك يرى ميشيل هنري في كتابه الموسوم ﺑ البربرية أنّه يمكن أن ننظر إلى الجماليات من جانبين؛ الجانب الأول متعلق بهذا المبحث الفلسفي من حيث هو تفكير وبحث في "الحساسية La sensibilité بصفة عامة، وبالعالم المتعلقة به"(2). 
ومن جانب آخر هي دراسة للأعمال الفنية وبكل ما يتعلق بإنتاج الجميل La production du beau . وبهذا المعنى فإنّ اهتمامها منصب على الحقل الجمالي والفني في آن واحد. ولعل ما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام هو أنّ ميشيل هنري يعتبر الموضوع الجمالي والفني واحدا، متجاوزا في ذلك التقليد الفلسفي الذي كان سائدا من قبل لدى بعض الفلاسفة الذين ميزوا بين الحقلين الفني والجمالي، مثلما نجد ذلك، على سبيل المثال، لدى بعض الفلاسفة الألمان (كانط، شيلينغ، هيغل، الخ). بيد أنّ ميشيل هنري أكد هذا التوجه المزدوج فيما يخص الجمالي والفني Esthétique /Artistique من حيث أنّ موضوعهما واحد من الناحية الفينومنولوجية، حتى وإنّ اكتسى الموضوع في ذلك أشكالا متباينة؛ فمن الناحية الفنية تتخذ الحساسية أعلى أشكال التحقق. والحالُ أنّ العالم الفني –بحسب ميشيل هنري- هو من دون شك عالم مرتب و"منسّق" أي عالم تكون فيه العناصر منظمة بكيفية تحدث فينا-نحن البشر- إحساسات متميزة بشدتها(3). أما التجربة الجمالية للواقع الخارج عما هو فني فقد لا تكون بهذا الشكل. لهذا السبب نلاحظ أنّ ميشيل هنري كان كثيرا ما يشير إلى تلك الأحوال الوجدانية الجمالية التي طالما تحدث عنها الفنّان الروسي الكبير فاسيلي كاندنسكي Wassily Kandinsky الذي انبهر بشدة ألوان الأشجار حينما كان في نزهة في إحدى الغابات المحيطة بمدينة ميونخ الألمانية (4). ولكن ومع ذلك فإنّ بين عالم المحسوس وعالم الفن اختلاف نوعي بحسب ميشيل هنري. وعلى غرار هيغل Hegel الذي ذهب إلى القول أنّ الجمال الفني، بالنظر إلى كونه يحمل صفة الروح أسمى من الجمال الطبيعي(5)، يرى ميشيل هنري أنّ جمال الطبيعة لا يضاهي الجمال الفني ولن يبلغ منزلته ومكانته لأنه جمال نابع من ذاتية (الفنّان المبدع) نفسه. وفي هذا المضمار علينا أن نشير إلى أنه لا يوجد موضوع خاص لما هو فني وأنّ كل ما في الأمر أننا قد نكون أمام شكل خاص لموضوع واحد ليس إلا(6). وهذا على الرغم أنّ بعض الفلاسفة والمفكرين في الحقل الفني والجمالي كانوا يلحون على ضرورة التمييز بين ما هو فني وما هو جمالي،كما أشرنا إلى ذلك سابقا. والحال أنّ ميشيل هنري يرفض هذا التمييز ويعتبره غير مبرّر على المستوى الفلسفي بل وضار وغير مفيد على الإطلاق في حقل الجماليات. ضمن هذا السياق يعتقد ميشيل هنري أنّ نزع الطابع الجمالي عن الفن، وفقدان هذا الأخير للطابع الجمالي سيؤدي -من دون شك- إلى فقدانه الجانب الفني الأصيل، ومن ثمة سيتحول إلى مجرد أشياء تُعرض في المتاحف وصالات العرض ومحلات بيع الآثار الفنية، أو تثير اهتمام النقّاد ومؤرخي الفن ومحافظي البيع بالمزاد، الخ. والحقُ أنّ العمل الفني والجمالي يكتسي طابعا ماهويا ويعبّر عن حساسية ورؤية أصيلة للعالم، إنه –كما يقول ميشيل هنري- "متأصل ومتجذر في ماهية الحياة"(7). وإذا لم يكن الفني والجمالي بهذا الشكل فلن يكون في هذه الحالة عملا فنيا وجماليا على الإطلاق. ولذلك، فإنّ استبعاد هذه الحساسية من المجال الفني والجمالي سيؤدي حتما إلى نهايته وموته. والحقيقة أن تأكيد ميشيل هنري على هذه الحساسية من حيث هي مرتكز العمل الفني والجمالي برمته يقتضي الاحتفاظ بتسمية الجماليات (أو الاستيطيقا) ليس فقط لأنّ الجماليات هي المبحث النظري الذي يهتم بدراسة الأشكال العليا للإبداع الفني فقط ولكن –وبالإضافة إلى ذلك- لأنّ غرض هذا المبحث يتمثل في "تحقيق قدرات الحساسية"، وليس من شك أنّ هذه التسمية –أي الجماليات- مناسبة تماما(8).
هذا ويجب أن نشير هنا إلى أنّ المتصفح لأعمال ميشيل هنري الفنية والجمالية سيلاحظ –من دون شك-أنّ هذا الأخير قد رفض نظرية المحاكاة Imitation لأنها لا تفترض وجود المرئي في تصوير الأشياء، ولا يعيد إنتاجه وإنما يجعله مرئيا أمامنا، والحقُ أنّ "الفن ليس محاكاة للحياة ولا للطبيعة أيضا"(9).ومن هنا، رفض ميشيل هنري تفسير القراءات الميتافيزيقية التقليدية المتعلقة بالعمل الفني والجمالي التي استندت إلى مفهوم المحاكاة. ولذلك، لزم في رأيه استبعاد المحاكاة والتمثّل من المجال الفني والجمالي لأنّ أساس الإبداع الفني وإنتاج الجميل ينحصر على وجه التحديد في ما يسمى – من المنظور الفنومينولوجي- ﺑ "الانكشاف" Le dévoilement على الرغم أنّ فلسفة الفن والجماليات، منذ أفلاطون وأرسطو وإلى عصور متأخرة، ولأكثر من عشرين قرنا من الزمن، قد قامت على المحاكاة والتشخيصLa figuration . ولكن رغم ذلك يرى ميشيل هنري أنّ الفن في جوهره أو ماهيته ليس محاكاة ولا تقليدا للطبيعة أو الحياة. وهذا يعني أنّ الفن في ماهيته انكشاف اللامرئي L’invisible . وفي هذه الحالة، إذا كان اهتمام الجماليات موجها نحو هذا الانكشاف فإنّ مهمة الفنان في مجال الرسم مثلا لا يتمثل في تصوير ما يراه ويمثل أمامه من أشياء مرئية ومحاكاتها وإنما بالأحرى في الكشف عن ماهية الشيء المرئي، وانتظار ملاقاة اللامرئي الثاوي وراء الشيء نفسه. هذا، ويُعتبر الرسّام الروسي التجريدي فاسيلي كاندنسكي Wassily Kandinsky -بحسب ميشيل هنري- الفنّان الذي استطاع أكثر من غيره من الفنانين على البحث عن أشكال فنية جديدة لتعبير عن اللامرئي من خلال التوجه المقصود إلى الشيء وتوّقع لقائه. إنه الذهاب لملاقاة ما كنا ننتظر رؤيته والتعرّف عليه وقصده. وعلى هذا الأساس يعتقد ميشيل هنري أنه عوض البحث عن البنيات المكوِّنة للمعرفة يجب بالأحرى الكشف عن البنيات المكوِّنة للوجود وفق ما يظهر لنا في وما ننتظر رؤيته. ومن ثمة فإنّ الجانب الأساسي الذي يجب الاحتفاظ عليه هنا ليس "شكل" الذات العارفة من حيث هي مبدأ التعالي La transcendance (كما اعتقد كانط في نقد ملكة الحكم) بل واقع هذا "الشكل" من حيث كونه متميزا عن هذا التعالي. والمترتب عن ذلك أنّ الواقع وحده يمكن أن يكون –بحسب ميشيل هنري- أساسا أصيلا لماهية التعالي أي للعالم المُدرك من حيث هو كذلك(10). وبناء على هذا فإنّ قصدية الوعي(11) Intentionnalité de la conscience ، هذه الحركة المعرفية المتوجهة نحو ما يسعى الوعي إلى فهمها، تصطدم بغاية عدم التلقي المتمثلة على وجه التحديد في تلك المنظورات التي يعجز النظرُ عن تتبعها، وفي الفضاءات التي لا يستطيع تجاوزها، وفي ألوان اللاشيء. وليس هذا فقط، بل وفي تلك الأشكال والرموز Symboles الخالية من المعنى التي تبقى غامضة دوما (12). وهذا يعني أنّ العمل الفني يفترض القصدية لأن بنية العمل الفني هي نتاج النشاط القصدي للفنان.

الهوامش:

(1) ميشيل هنري فيلسوف وروائي فرنسي معاصر، وُلد عام 1922، يعتبر أحد أقطاب الفلسفة الفينومينولوجية في فرنسا، وقد وارتبط المنهج الفينومينولوجي عنده بمفهومه للحياة الخاصة والشخصية للفرد التي تحدّد كيانه ووجوده المتميّز. وعلى هذا الأساس كان مفهوم الحياة عنده هو المحدّد الأساسي لماهية الحقيقة. ومما لا شك فيه أنّ الحياة وتمظهراتها المختلفة (المرئية واللامرئية) كانت شغله الشاغل وموضوعه المركزي طوال حياته الفكرية. من أهم مؤلفاته: "ماهية التجلي" 1963، "الفلسفة وفينومنولوجيا الجسد"1965، "جينيالوجيا التحليل النفسي. البداية الضائعة" 1985، "البربرية" 1987، "من الشيوعية إلى الرأسمالية: الكارثة" 1990، "الفينومينولوجيا المادية"1990، "أنا الحقيقة: من أجل فلسفة مسيحية" 1996، "أقوال المسيح" 2002، "في الفن والسياسة، فينومينولوجيا الحياة" 2003. هذا وقد توفي ميشيل هنري في عام 2002.
(2) Michel Henry, La barbarie. Editions Grasset, 1987, p 53.
(3) Ibid., p 76.
(4) Michel Henry, Voir l’invisible. Sur Kandinsky, Paris, éditions PUF, 1988, p 33.

(5) « Le beau artistique est supérieur au beau naturel, parce qu’il est un produit de l’esprit. L’esprit étant supérieur à la nature, sa supériorité se communique également à ses produits et, par conséquent, à l’art. C’est pourquoi le beau artistique est supérieur au beau naturel. Tout ce qui vient de l’esprit est supérieur à ce qui existe dans la nature. ». G. F. Hegel, Introduction à l’esthétique, éditions Aubier-Montagne, Paris, 1964, p 10.
(6) Carole Talon Hugon, « L’esthétique Henryenne est elle phénoménologique ? » Adnen Jdey et Rolf Kühn (dir) Michel Henry et l’affect de l’Art, Leiden, Library of Congress, 2012, p 5.
(7) Michel Henry, La barbarie. Editions Grasset, 1987, p 39.
(8) Carole Talon Hugon, « L’esthétique Henryenne est elle phénoménologique ? » p 6.
(9) Michel Henry, La barbarie, p 206.
(10) Gabrielle Dufour-Kowalska, L’art et la sensibilité : De Kant à Michel Henry. Librairie Philosophique Vrin, Paris, 1996, p 171.
(11) « Le mot intentionnalité ne signifie rien d’autre que cette particularité foncière et générale qu’a la conscience d’être conscience de quelque chose, de porter, en sa qualité de cogito, son cogitatum en elle-même » Edmond Husserl, Méditations Cartésiennes, Paris, éditions Vrin, 1947, p 14.

(12) Michel Henry, De l’art et du politique, Presses universitaires de France, 2004, p 224.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.