أعلان الهيدر

الأربعاء، 18 ديسمبر 2019

الرئيسية كريستوف مينكه: التجربة الجمالية وسيادة الفن (ج1)

كريستوف مينكه: التجربة الجمالية وسيادة الفن (ج1)


كريستوف مينكه: التجربة الجمالية وسيادة الفن 

الجزء الأول 

بقلم/ أ.د كمال بومنير


إنّ المتتبع لأعمال الفيلسوف الألماني المعاصر كريستوف مينكه (1) Christophe Menke سيلاحظ من دون شك اهتمامه البالغ بالقضايا الفنية والاستطيقية. والحقُ أنّ هذا الاهتمام يندرج ضمن سياق إعادة الاعتبار لمكانة وأهمية الاستطيقا Die Ästhetik في خضم الإشكاليات الفلسفية المطروحة في زمننا الراهن. لذلك يعتقد كريستوف مينكه أنه من الضروري إعادة بناء الاستطيقا حتى تتمكن من أداء وظيفتها الفلسفية وأبعادها النقدية، بحيث لا تكون لها مجرد مكانة ضمن مختلف مجالات العقلنة die rationalisierung التي اتسمت بها الحداثة الغربية، إلى جانب المجالات الأخرى (المعرفة والأخلاق والقانون) بالمعنى الذي حدّده ماكس فيبر Max Weber أو يورغن هابرماس Jürgen Habermas الذي اكتفى بتحديد موقع الاستطيقا "في إطار النسق الثلاثي للمعقولية، دون أن يبلوره كما بلور نظرياته في المعرفة والفعل. إنّ السبب في هذا الاختزال الواضح مرده إلى ذلك التضارب القائم بين خصوصية المعيار الذي يدعيه الأثر الفني وعمومية أو كونية المعيار المعرفي أو العملي. ولهذا السبب، اكتفى بجعل الأثر يعبّر عن "أصالة تجربة شخصية" أو عن "وظيفة تجديد القيم" (2). والحقُ أنّ ما ذهب إليه ماكس فيبر ويورغن هابرماس حول هذا التحديد الجمالي ضمن النسق الثلاثي للمعقولية يرتكز على الرؤية الكانطية فيما يخص الاستقلالية الاستطيقية Die Ästhetische Autonomie. هذا، ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى أنّ كانط قد قدّم مقاربة قي كتابه نقد ملكة الحكم مفادها أنّ الاستطيقا – على خلاف ما كانت عليه في السابق- ليست تابعة للأطر المعرفية والوصايات الدينية والميتافيزيقية وإنما تتمتع باستقلالية ذاتية. وعلى هذا الأساس، ومن خلال الحُكم الاستطيقي ، وهو حكم ذاتي صرف، تصدر الذاتُ الفردية حكمها الاستطيقي هذا بحرية. وهذا يعني –بطبيعة الحال- أنّ للتجربة الاستطيقية قانونها الذاتي إلى جانب المجالات الأخرى للمعقولية (العلم، الأخلاق، القانون). وهذا ما يدفعنا إلى القول بأنّ هذه التجربة تتسم بالنسبية والمحدودية لأنها لا تخص إلا ما له صلة بالجميل das Schöne ما دام أنها لا تتعلق إلا بالمجال الخاص للاستقلالية الاستطيقية التي هي مجرد عنصر من بين العناصر المكونة لمجالات الحداثة (3). هذا ما جعل كريستوف مينكه، يرفض هذا التوجه الذي يحصر الاستطيقا في تلك الاستقلالية التي تفرغها حقا من وظيفتها النقدية والثورية. ضمن هذا السياق، يلاحظ كريستوف مينكه أنه من الممكن أن تكون وظيفة الفن مؤثرة نسبيا فقط على الواقـع، وذلك لأن الفـن قادر على تمثيل الإمكانيات والقدرات والأفكار التي لم تتحقق في الواقع الفعلي، ولكنه يملك إمكانية استخلاصها من الواقع الباطن للفن ثم تجسيدها على المستوى الاجتماعي(4). ضمن هذا السياق، حاول كريستوف مينكه حل التناقض القائم بين استقلالية الفن وسلبيته Negativität، والتي أصبحت تهدد من دون شك انسجام الاستطيقا الأدورنية برمتها. والحقُ أنّ المشكل الأساسي في رأيه يفترض معرفة كيفية تمفصل استقلالية الفن وسموه، من خلال مقاربة منسجمة لما يسمى بالسلبية الاستطيقية Ästhetische Negativität مستفيدا في ذلك أيضا –بطبيعة الحال-من النظرية التفكيكية لجاك دريدا (5) Jacques Derrida انطلاقا من الفكرة القائلة بأن الفن أصبح يمثل تهديدا للخطابات الجمالية العقلانية، فإنّ الفن –والحقُ يقال- لا يمثَل ذلك "الآخر" بالنسبة إلى العقل وليس تجاوزا له، وإنما هو تأزيم للعقل نفسه (6). والحقُ أن الفن سام لأنه يستطيع إزالة العوائق القائمة بين التجربة الاستطيقية والأنماط الأخرى للتجربة، ولكنه تجاوز أو تفكيك للعقل الذي يفرض نفسه بصورة مباشرة على العقل نفسه، ولكن ما دام أنه لا يؤسس صحته سوى على نفسه، فإن ذلك أصبح بمثابة أزمة لمجرى خطاباتنا. لقد ذهب كريستوف مينكه إلى القول بأن "سيادة" الفن (7) Die Souveränität der Kunst - أي فعله النقدي تجاه العقل- ليست على حساب استقلالية الفن على الإطلاق، وإنما هي "تفترضه" فقط. وبهذا المعنى، فإن الفن المنسجم مع نمط سيره ووضعه الحالي، يقوم على تعريفه كحافز على ظهور المشكلات، والتي لولا التجربة الاستطيقية لم يتم طرحها وتصورها(8) . والحق أنّ فحص سريع للأطروحات القائمة يكشف لا محالة عن وجود قواسم مشتركة عديدة، وهي مؤشرات على وجود نوع من الانسجام في الفكر الألماني المعاصر. وحتى وإن اعتبرت نظرية أدورنو مرجعية أساسية لدى المفكرين المشاركين في النقاش الاستطيقي المعاصر، فإن العديد منهم قد رفض صراحة الخلفية الفلسفية التي كانت تؤطر المفاهيم الواردة في كتاب جدل التنوير Dialektik der Aufklärung، وخاصة مفهوم العقل الأداتي. وهكذا، أصبحت هذه الخطابات تتحدد من خلال وضع معيَن للفن الراهن، ولتلك الأشكال الإبداعية التي تجاهلها أو انتقدها أدورنو. غير أن ما هو ملاحظ هو أن التفكير النظري لم يعد يعتمد كثيرا على التحاليل الملموسة للأعمال الفنية(9). على كل حال يعتبر مفهوم سيادة الفن مفهوما أساسيا لدى كريستوف مينكه. وضمن هذا السياق، يرى هذا الأخير أنه إذا كان نموذج الاستقلالية الاستطيقية ، الذي أشرنا إليه سابقا، يصف لنا الصلاحية النسبية للتجربة الاستطيقية فإنّ نموذج سيادة الفن يؤكد على الصلاحية المطلقة لهذه التجربة لأنّ هذا النموذج ينطلق من فكرة أساسية مفادها القول بأنّه من خلال هذه التجربة يمكن هدم وتفكيك سيطرة العقل الأداتي من خلال الممارسة النقدية. يعتقد كريستوف مينكه أنّه يمكن أن نعثر في النظرية الاستطيقية لأدورنو على المعالم الأساسية التي ستسمح بصياغة نقيضة Die antinomie بين السيادة والاستقلالية، وهي مسألة تكتسي أهمية كبيرة في الفن الحديث وخطابه النظري. علما أنّ أدورنو نفسه، ومن خلال مفهوم السلبية الاستطيقية ، كان قد حاول صياغة المنطق الداخلي للتجربة الجمالية عبر مختلف تمفصلاتها، وفي الوقت نفسه، تأكيد إمكاناتها النقدية تجاه سيطرة العقل الأداتي.

الهوامش:

(1) كريستوفه مينكه Christophe Menke فيلسوف ألماني معاصر( ولد في مدينة كولن عام 1958)، يعد أحد ممثلي الجيل الثالث للنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت. درّس الفلسفة والجماليات وفلسفة الأخلاق في العديد من الجامعات الألمانية ( برلين، بوتسدام، فرانكفورت) والأمريكية (نيويورك) والمكسيكية (جامعة مكسيكو). هذا، وقد تنوعت اهتمامات كريستوف مينكه الفلسفية (فلسفة الأخلاق، الفلسفة السياسية، الجماليات)، غير أنّ الحقل الفلسفي الأساسي الذي انشغل به كثيرا هو الحقل الجمالي الذي أسهم فيه عبر العديد من المؤلفات الهامة التي اكتست أهمية كبيرة في الدراسات الاستطيقية والفنية المعاصرة. هذا، ويمكن أن نشير هنا إلى أهم هذه المؤلفات: سيادة الفن: التجربة الجمالية بعد أدورنو ودريدا (1988)، التراجيديا والأخلاق: الاستقامة والحرية بعد هيغل (1996)، تأملات في المساواة (2000)، التراجيديا في الزمن الحاضر (2005)، قوة الفن (2013)، نقد الحق (2015).
(2) منيرة بن مصطفى حشانة، الجمالية والنقد في فكر هابرماس، تونس، الوسيطي للنشر والتوزيع، ص43.
(3) Christophe Menke, La souveraineté de l’Art .L’expérience esthétique après Adorno et Derrida, trad. Pierre Rusch , Paris , Edition Armand Colin 1993, p 8.

(4) Ibid., p 57.
(5) Christophe Menke, « Esquisse d’une esthétique de la négativité » in Christian Bouchindhomme et R.Rochlitz, éd : L’Art sans compas. Redéfinitions de l’esthétique. Paris, les éditions du cerf, 1992, p 97.
(6) Marc Jimenez, L’esthétique contemporaine, tendances et enjeux, Paris, éditions Klincksieck, 2004, 90.
(7) تجدر الاشارة إلى أنّ فكرة سيادة الفن لها جذور فلسفية في الرومانسية الألمانية وتصل إلى الحركات الفنية الطليعية المعاصرة (الدادائية، السريالية على وجه الخصوص).

(8) Christophe Menke, La souveraineté de l’Art .L’expérience esthétique après Adorno et Derrida, p 68.
(9) Marc Jimenez, L’esthétique contemporaine, tendances et enjeux, Paris, éditions Klincksieck, 2004, p 89.

Christophe Menke

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.