ميتافيزيقا الموسيقى
هذه الترجمة مهداة للدكتور خلدون النبواني
بمناسبة تذكار وفاة الفيلسوف الألماني أرثور شوبنهاور في 21 سبتمبر 1860.
"ميتافيزيقا الموسيقى"
تأليف: أرثور شوبنهاور
ليس من شك أنّ الموسيقى ليست، كالفنون الأخرى، تجليا للأفكار أو درجات تموضوع الإرادة وإنما هي تعبير مباشر للإرادة نفسها. ومن هنا ينتج الفعل المباشر الذي تمارسه على هذه الإرادة نفسها، أي على مشاعر وأهواء وانفعالات وعواطف المستمع، التي يسهل إثارتها وتغييرها. وإذا كان قد تقرّر أنّ الموسيقى ليست مجرد فن تابع للشعر فهذا يعني بأنها فن مستقل بذاته، بل هي أقوى الفنون على الإطلاق قدرة على بلوغ غرضها اعتمادا على وسائلها وإمكاناتها. ولكن ومع ذلك ليس من المؤكد أنها ليست في حاجة إلى كلمات الشعر أو الأداء الموسيقي للأوبرا. وليس بغير ذي أهمية أن نلاحظ أنّ الموسيقى من حيث هي كذلك لا تعرف إلا الأصوات ولا تهتم، بأي حال من الأحوال، بالأسباب التي تحدثها. وعلى هذا، يكون صوت الإنسان مجرد صوت معدّل مثل صوت الآلة الموسيقية. فمعلومٌ أنّ لهذا الصوت، على غرار الأصوات الأخرى الايجابيات والسلبيات الخاصة، مرتبطة بطبيعة الآلة الموسيقية التي تحدثها. وإذا صلحت هذه الآلة الموسيقية نفسها، في الوقت الحالي، من جهة أخرى لتواصل الأفكار، فإنّ الأمر هنا متعلق –بطبيعة الحال-بظرف عارض ليس إلا.
والجدير بالذكر بهذا الصدد هو أنّه يمكن أن تغتنم الموسيقى الفرصة فيما يخص هذا الأمر بشكل عرضي، وهذا بغرض الارتباط بالشعر، ولكن شريطة أن لا يفضي ذلك إلى اعتباره أمرا أساسيا. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الكلمات لا تمثل بالنسبة إلى الموسيقى سوى إضافة غريبة لقيمة ثانوية لأنّ أثر الأصوات أقوى بكثير وأسرع أيضا من الكلمات نفسها. وحتى وإن امتزجت الكلمات بالموسيقى فلن يكون لها أهمية كبيرة. وهذا في الوقت الذي كان يجب أن تخضع لمتطلبات ومقتضيات الأصوات ذاتها. وكيفما كان الحال، فإنّ العلاقة تتخذ طابعا معكوسً عندما يتعلق الأمر بالشعر والغناء أو بالأوبرا التي نقتبس لها موسيقى ما، في الوقت الذي يبرز فيه فن الموسيقى إمكاناته وقدراته العالية. فليس من شك أنّ الموسيقى قادرة فعلا على سبر أغوار وأعماق المشاعر والأحاسيس الخفية التي يتم التعبير عنها بالكلمات أو من خلال تلك الأفعال الممثلة في الأوبرا، بحيث تستطيع الكشف عن طبيعتها الخاصة والحقيقية، بل قد تكشف أيضا عن روح الحوادث والوقائع نفسها [..]
بهذا، لم يبق لي إلاّ أن أشير إلى أنني قد تناولت الموسيقى بالدراسة من الناحية الميتافيزيقية أي بالنظر إلى الدلالة الداخلية للأعمال الموسيقية. لذلك وجب القيام بفحص عام للوسائل التي تساعد على تحقيقها بغرض التأثير في جانبنا الروحي بغية إثبات صلة هذا الجانب الميتافيزيقي للموسيقى بالجانب الفيزيائي الذي طالما اهتم به العلم ودرسه بشكل كافٍ في زمننا هذا. والحال أنني انطلق –فيما يخص هذه المسألة- من النظرية التي لقيت قبولا، على الرغم مما قدم لها من اعتراضات لم تستطع-والحقُ يقال- زعزعتها. بيد أنه يجدر بنا ههنا أن نشير إلى أنّ تناغم وانسجام الأصوات قائم على تطابق أو توافق الاهتزازات. فبالنسبة لعلامتين موسيقيتين يتم أداؤهما في وقت واحد يحدث التطابق أو التوافق –كما هو معلومٌ-في الاهتزاز الثاني أو الثالث أو الرابع، ومن ثمة تصبح هذه العلامات الموسيقية من مجموعة ثماني وحدات Octaves، أو خماسية quintes أو رباعية quartes . وعلى أية حال فإنّ اهتزازات العلامتين الموسيقيتين تقدمان علاقة عقلية يمكن التعبير عنها في عدد قليل، علما أنّ تطابقهما أو توافقهما قد يتكرر دوما، وهذا ما سيسمح لنا بكل تأكيد بفهم وإدراك هذا الأمر جيدا. الأمر اللافت بلا شك هو أنّ الأصوات تتأسس على بعضها البعض، ومن ثمة ستحقق حتما توافقا فيما بينها.
Arthur Schopenhauer, Le monde comme volonté et comme représentation. Traduit en français par A. Burdeau, Paris, Presses universitaires de France, 2014, pp 1189- 1192.
ملحوظة: أشكر جزيل الشكر أستاذنا المحترم عبد الباقي هزرشي على تنبيهنا لذكرى وفاة أرثور شوبنهور في مقاله المنشور اليوم في صفحته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق