أعلان الهيدر

الاثنين، 30 مارس 2020

الرئيسية حول أهمية الذوق الفني والجمالي

حول أهمية الذوق الفني والجمالي


حول أهمية الذوق الفني والجمالي



معلومٌ أنّ العمل الفني والجمالي أصبح منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر يتحدّد بما يُرضي حساسية الإنسان، وما يبدو مثيرا للذات الإنسانية، وبما يمكن أن يؤثر في ملكة الحكم الاستطيقي من خلال ما يسمى بالذوق Le goût. وعلى هذا الأساس تم رد الجميل إلى الذات. ولكن في واقع الأمر تم رد الجميل إلى الجانب الأكثر ذاتية في الذات أي الذوق، وهذا ما أدى –بطبيعة الحال- إلى طرح مسألة معايير الجميل: والحالُ أن المرء يجد نفسه مستوقفا بالسؤال التالي: إذا كان الجميلُ هو ما يسّرنا كذواتٍ فكيف يمكننا تبيّن معايير أحكام الذوق التي نحملها دوما على الطبيعة بمقدار ما نحملها على الفن؟ كيف نفسّر لماذا كان الذوقُ، كما يقول المثل، يكتسي طابعا ذاتيا، مع أننا نلاحظ في الوقت نفسه أنّ الأعمال الفنية الكبيرة يمكن أن تحقق الاتفاق والإجماع كما تحققها أيضا المناظرُ الطبيعية الجميلة؟ من المعلوم أنّ جميع الناس، أو البعض منهم ربما، يحبون سماع موسيقى موزارت Mozart أو باخ Bach ومشاهدة مناظر غروب الشمس الجميلة على شاطئ البحر أو سفوح الجبال المغطاة بالثلوج. والحقُ أنّ الحفلات الموسيقية المنتشرة اليوم في كل أرجاء المعمورة تشهد على ما أقول. إنّ هذا الإجماع Consensus وهذا "الحس المشترك" Sens commun الذي يسود في مختلف تجليات الجمال، حتى عبر تجلياته العادية، كما أشار إلى ذلك دافيد هيوم David Hume في دراسته الموسومة ﯨ حول معيار الذوق – وبشكل مفارق حقا- أوسع بكثير مما هو عليه الحال في مجال العلوم. فمن المعلوم أنّ الخلافات في مجال العلم دائمة وغير متناهية- فالخلاف الحالي حول الاحتباس الحراري كان من الممكن أن يكون مثالا يستشهد به دافيد هيوم لو كان اليوم بين ظهرانينا. ولكن الغريب في الأمر أنّ في الحقل الاستطيقي لا أحد يجرأ على إنكار عظمة هوميروس Homère أو شكسبير Shakespeare وهذا على الرغم أنّ الجانب الجمالي –كما أشرنا إلى ذلك سابقا- هو جانب متقوّمٌ بالطابع الذاتي بامتياز. وعلى هذا الأساس كان السؤال المركزي في استطيقا القرن الثامن عشر مطروحا على النحو التالي: كيف يمكن تحليل هذا "الحس المشترك" ؟ وكيف يمكننا تفسير –بصورة مفارقة إلى حد ما- ذلك الترابط الموجود بين ما هو ذاتي وما هو كوني؟ الحقُ أنّ هذا السؤال قد طرح في تلك اللحظة التي أخذ فيها التفكيرُ في الجميل طابعا استطيقيا، وما كان يؤثر في الحساسية والانفعالات والأحاسيس المتعلقة بالمستوى الذاتي للذوق، حتى وإن بدا لنا ذلك اليوم أمرا مدهشا، إن لم يكن الأمر كذلك دوما بطبيعة الحال. وليس بخافٍ أنه كانت للقدامى رؤية أخرى، أكثر "موضوعية" فيما يخص علاقتنا بالجمال. 



وحتى نفهم جيدا مولد الاستطيقا ومسألة معايير الجميل يجب علينا الرجوع إلى التعريف الذي قُدم للفن بغية فهم كيف حدثت ثورة –انطلاقا من هذا التعريف الذي عرفه تاريخ الفكر منذ القدم- على مستوى التفكير في الجميل مع مولد الاستطيقا. والحقُ أننا نشهد هنا، مع مولد الفلسفة الحديثة التي كان ديكارت Descartes ممثلا لها بدون منازع، تذويتا Subjectivisation مزدوجا فيما يخص العلاقة التي يمكن أن تكون مع الجمال؛ أولا، "من جهة المشاهد" الذي سيتحدّد بكيفية ذاتية ﻛ "إنسان ذوّاق"، يملك حساسية مفرطة، وهذا في الوقت الذي ظهر فيه بالفعل مفهوم الذوق في تلك اللحظة التي ظهرت فيه الاستطيقا الأولى للدلالة على ملكة التمييز بين الجميل والقبيح. ثانيا، "من جهة المبدع"، حيث تلج الذاتية في التفكير في الجميل، في الوقت الذي تم فيه التفكير في الفنّان وفق مقولات نظرية العبقرية وما يسمى بالخالق "من العدم" الشبيه بالصانع أو الخالق لا الحرفي المقلّد والمكرّر لما قام به الأسلاف. هذا، وتجدر الإشارة إلى أن النظريات الأولى التي عالجت موضوع العبقرية من حيث هي ذات فريدة وأصيلة ازدهرت في القرن السابع عشر، وفي القرن الثامن عشر بخاصة.


لوك فيري، "مولد الاستطيقا ومسألة معايير الجميل" ترجمة وتقديم كمال بومنير (الجزائر: دار التنوير، 2020)، ص18-19.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.