الجميل في فن الموسيقى
تأليف: إدوارد هانسليك
ترجمة وتقديم: أ. د/ كمال بومنير
إدوارد هانسليك Eduard Hanslick عالم موسيقي نمساوي ولد في عام 1825 في براغ وتوفي في مدينة بادن بالنمسا. يعتبر هانسليك أحد كبار ممثلي المدرسة الشكلانية Formalisme في المجال الفني الموسيقي، ويعّد أيضا أحد النقّاد الموسيقيين الأكثر تأثيرا في مجال الموسيقى في القرن التاسع عشر -كما يذهب إلى ذلك العديد من الباحثين المتخصصين في هذا الفن. هذا، ويعتقد إدوارد هانسليك أنّ الموسيقى الآلية Musique instrumentale وهي الموسيقى التي تعتمد في تجسيدها وإخراج الأنغام والألحان والإيقاعات على الآلات الموسيقية، بخلاف الموسيقى الغنائية Musique Vocale التي تعتمد على الألفاظ والكلمات والحنجرة البشرية لإخراج الأصوات من الناحية الغنائية، هي وحدها القادرة على تضمن العناصر الفنية والجمالية المكتفية بذاتها وفق المعايير اللحنية والنغمية التي تكوّن ما يسمي بالبنية الشكلية الموسيقية. وعلى هذا الأساس يمكن أن نحكم على العمل الفني الموسيقي بالنظر إلى ما تتضمنه هذه البنية الشكلية. وبناءً على ذلك فإنّ الموسيقى الآلية في رأي إدوارد هانسليك أرفع مقاما من الموسيقى الغنائية التي تتقوّم بحسب النصوص الشعرية المكتوبة أو بحسب ما تحاكي فيه الأحاسيس والمشاعر الإنسانية كالحب والغضب والخوف واليأس والغيرة وغيرها من المشاعر الإنسانية لأنه ليس من وظيفة الموسيقى التعبير عن مضامين أو تصوير حالات معينة، وهذا ما يفسر لنا –بطبيعة الحال- دفاعه عن ما يسمى بالموسيقى الخالصة La musique pure المكتفية بذاتها لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار سوى ما ينبعث من الآلات الموسيقية من ألحان وأنغام وإيقاعات. من أهم أعمال إدوارد هانسليك: "الجميل في فن الموسيقى" 1854، "تاريخ الحفلات الموسيقية في مدينة فيينا" 1869، "الأوبرا الحديثة" 1875، "محاولات في الموسيقى والموسيقيين" 1884، "حياتي" 1894.
النص:
ليس من شك أنّ العامل الأهم الذي يرافقُ فهم عملٍ موسيقي Œuvre musicale ما على مستوى حياتنا النفسية ويحقّق لنا –بطبيعة الحال- متعةً هو ذلك الانبساطُ الذهني الذي يجده المستمعُ أثناء تتبعه المتواصل لمقاصدَ المؤلف الموسيقي ويتوقعها أحيانا، فيصيب تارةً ويخطئ تارةًّ أخرى في تخميناته. والحقُ أنّ هذه الحركات الفكرية المستمرة، وهذا الأخذ والعطاء المتواصل بين من يعطي ومن يتلقى يتحقّق بطريقة غير واعية وبسرعة فائقة. وعلى هذا الأساس يمكننا القول إنّ هذه الموسيقى تثير فعلا هذا التتبع الذهني وتكافئه. وهذا ما يمكن أن نسميه هنا ﺑ "تروّي الخيال" الذي يسمح بتحقيق المتعة الفنية الكاملة. ولكن ومع ذلك تجب الإشارة هنا إلى أنه لا يمكن أن تكون هناك متعةٌ جماليةٌ دون نشاط ذهني. كما أنّ شكل هذا النشاط الذهني الذي نحن بصدد الحديث عنه هنا هو ما يتناسب حقًا مع الموسيقى لأنّ الأعمال الموسيقية لا تُعرض علينا دفعة واحدة بل تتلقاها أسماعُنا تدريجيا وخطوة إثر خطوة. لذلك لا تتطلب الموسيقى من المستمع تأملا يتعاقبُ فيه انتباهٌ متواصلٌ ومتقطعٌ وإنما تتطلب أن يرافقه انتباهٌ مستمرٌ ودائمٌ. وبناءً على هذا يمكن لهذه المرافقة أن تصبح عملا ذهنيا حقيقيا عندما يتم تطبيقها على بعض المؤلفات الموسيقية المعقدة.
ولكن ومع
ذلك فإنّ هذا العمل الذهني قد يصعب على كثير من الأفراد وعلى بعض الأمم
القيام به؛ من المعلوم أنّ التفوّق النمطي للحن المغنّى عند الايطاليين
سببه نفورُ هؤلاء من العمل الذهني المستمر والدائم بينما يميل أبناء الشمال
(أي شمال أوربا) إلى تبيّن الانشباكات الفنية للنسيج النغمي Harmonique
والطباقي Contrapuntique، لهذا السبب تصبح المتعةُ الموسيقية من دون شك
أسهل منالا عند المستمعين ذوي النشاط الذهني المحدود. والحقُ أنّ هؤلاء
المعجبين بالموسيقى يستهلكون كمّا هائلاً من الأعمال الموسيقية، وهذا ما قد
يؤدي –بطبيعة الحال- إلى تقهقر الروح الفنية. بيْد أنّ هذا العنصر الذهني
الذي يجب أن يكون حاضرا في كل متعة فنية هو من دون شك فعّال بدرجات متباينة
لدى المستمعين لعمل موسيقي واحد. والذي نراه ونرتضيه هو أنه يمكن أيضا أن
يكون ضمن الحد الأدنى في الطبائع الحسية أو العاطفية، بحيث يصبح هو العنصرُ
الحاسمُ عند ذوي الطبائع الأكثر ذكاءً. وللوصول إلى "وسط" بينهما يجب في
رأيي الميل إلى الجانب الذهني. ليس من شك أنّ المبالغة في الميل إلى الجانب
العاطفي قد نجدها غالبا عند أولئك المستمعين الذين يملكون- والحقُ يقال-
ثقافةً تؤهلهم فعلا لتحقيق مطلب الفهم الفني للجميل في المجال الموسيقي Le
beau musical. ضمن هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنّ المستمع غير المختص في
المجال الموسيقي أكثر إحساسا بالموسيقى في حين أنّ الفنّان المثقف أقلّ
إحساسا منه. والحقُ أنه كلما كانت اللحظةُ الجماليةُ في نظر المستمع هامةً
(وتماما كما هو عليه الحال في العمل الفني الموسيقي) كلما خفّف ذلك حقا من
تأثير العناصر البسيطة. وهذا ما يفسّر لنا -بطبيعة الحال- تلك البديهية
العظيمة التي طالما كان يردّدها المنظرّون الموسيقيون: "إنّ الموسيقى
الكئيبة تحرّك فينا مشاعرَ الحزن أما الموسيقى المفرحة فهي تحرّك فينا
مشاعرَ المرح والبهجة"، ولكن ومع ذلك قد يكون هذا القول غير صحيح أحيانا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق