أعلان الهيدر

الأربعاء، 18 ديسمبر 2019

الرئيسية لغةُ الموسيقى

لغةُ الموسيقى


لغةُ الموسيقى

تأليف: إتيان جيلسون
ترجمة وتقديم: أ.د/ كمال بومنير


إتيان جيلسون Etienne Gilson فيلسوف فرنسي معاصر، وُلد في باريس عام 1884، وتوفي في 1978. يعتبر أحد أقطاب الفلسفة التوماوية الجديدة Le néo-thomisme في فرنسا. اهتم منذ بداية مساره الفكري والفلسفي بأعمال توما الأكويني وروني ديكارت. ارتكزت أعماله الفلسفية على استحضار البُعد الروحي والإنساني الذي تم طمسه من قبل النزعات العلموية Scientisme والوضعانية Positivisme التي تحمست للتقدم العلمي والتقني على حساب الوجود الحقيقي للإنسان وأبعاده الروحية والقيمية. من أهم مؤلفاته: "دراسات في الفلسفة الوسيطية" 1921، "القديس توما الأكويني" 1929، "دراسات عن تأثير الفكر الوسيطي في النسق الديكارتي"1930، "الفلسفة والمسيحية" 1936، "وحدة الفلسفة والتجربة" 1937، "التوماوية الواقعية ونقد المعرفة"1939، "الوجود والماهية" 1948، "مجتمع الكم وثقافته" 1967، "الفلسفة واللسانيات" 1969، "الإلحاد العسير" 1979. أما الكتاب الذي تضمن آراءه الفنية والجمالية، وخاصة في مجال فن الموسيقى فقد جاء بعنوان "المواد والأشكال" 1965.

النص:

لعلنا في غير حاجةٍ إلى أن نؤكد هنا بأنّ الموسيقى ليست لغة للتعبير عن الأفكار بل بالأحرى هي لغة غرضُها الأساسي التعبير عن المشاعر والأحاسيس الإنسانية. وهذا ما لا يتبين للمرء للوهلة الأولىّ لأنّ الموسيقى تعبّر، بحسب الحال، عن الفرح أو الحزن أو التأجج أو الفتور. وعلى الجملة، نقول إنّ الموسيقى فنٌ قادرٌ فعلا على التعبير عن الأحوال الوجدانية والعاطفية التي يتأثر بها الإنسانُ عادةً. بل بإمكاننا أن نذهب أبعد من ذلك لأنّ بعض الباحثين يعتقدون بأنّ الموسيقى قادرة من دون شك على التعبير عن العديد من المشاعر والأحاسيس التي تعجز اللغةُ عن التعبير عنها بالكلمات والألفاظ. أما الدليل الذي يثبت ذلك -في رأيهم- فهو القول بأنه يتعذر على الكلمات والألفاظ وصف المشاعر والأحاسيس الرقيقة أو العنيفة والمتغيرة باستمرار بصورة دقيقة. ومع ذلك فإنّ الموسيقى تؤثر فعلا في حساسية المستمع. لذلك فإنه بالوسع القول بأنّ الموسيقى لا تعبّر فقط عن هذه المشاعر والأحاسيس بل تسببها أيضا؛ وما من شك أنّ البرق والبحر والجبل مثلا هي ظواهر طبيعية لا تعبّر –بطبيعة الحال- عن مشاعر وأحاسيس إثر رؤيتها بل إنّ هذه الظواهر -والحقُ يقال- هي التي تؤثر فينا عبر مختلف الانطباعات العابرة أو الدائمة، بحيث يعجز المرءُ عن التعبير عنها بالكلام أو اللغة. وهذا هو السبب الذي دفع العديد من الكتّاب إلى البدء بوصف هذه "المشاهد الطبيعية" واعترافهم بالعجز عن التعبير عن مشاعرهم وأحاسيسهم بالألفاظ والكلمات. وهذا على الرغم أنّ الأمر هنا متعلقٌ –بطبيعة الحال- بالتعبير لأنّ بإمكان هؤلاء الكتّاب التعبير عن تأثرهم بما ما رأوه.

ليس من شك أنّ الطبيعة لا يمكنها قول شيء ما وإنما هي تكتفي بعرض نفسها للناظر. وربما يلزمنا أن نشير هنا إلى أنّ الموسيقى تملك القدرة الطبيعية–بالنظر إلى مرونتها من الناحية الشكلية Plasticité formelle- على التأثير في حساسية الكثير من الناس، بل بإمكانها أيضا التأثير في عواطفهم إلى حد بعيد. والملاحظ أيضا أنّ في إمكان الموسيقي –إن أرادت ذلك- استعمال الصوت بغرض التأثير في حساسية المستمع أو المتلقي. ولربما كان هذا من أهم الأسباب التي دفعت الموسيقي الألماني الشهير ريتشارد فاغنر Richard Wagner ،الذي كان يمتلك من دون شك قدرة عجيبة في التأثير على عواطف الناس ومشاعرهم أحاسيسهم، إلى ابتكار ما يسمى بالموسيقى الخالصة أو الراقية من بين الأنواع الموسيقية الأخرى. وفضلا عن ذلك، نلاحظ أيضا أنه كلما توجهت الموسيقى إلى مشاعر الناس وأحاسيسهم، سواء بمفردها أو مع فنون أخرى، فإنّ إسهامها الخاص في ذلك لا يتعلق –والحقُ يقال- بالدلالة La signification بل بالسببية الفاعلة La causalité efficiente. والواقع أنّ الموسيقى تتأثر في ذلك بالنغمات والإيقاعات والآلات الموسيقية الموجودة، وبكل ما يمكن أن يثير حساسية المستمع وما يتناسب أيضا مع الكلمات والأوضاع المرتبطة بهذه الموسيقى. وبذلك يتبين أنّ لغة مثل هذه الأعمال الفنية بإمكانها أن تنتج معنى ما. وليس من شك أنّها تدعم في ذلك العاطفة أو الإحساس المناسب. وعلاوة على ذلك، حتى وإن لم تُفهم الكلمات، يمكن أن تكون الموسيقى مع ذلك واضحة بالنسبة إلى المستمع. لذلك فإنه بالوسع القول إنه من البيّن أنّ الموسيقى قادرةٌ -بطبيعة الحال-على فرض سلطتها على المستمع. ومهما كان استعداد الفنّان العاطفي أثناء التأليف الموسيقي La composition musicale فإنه ليس بإمكان هذا الأخير أن يعرفه لنا وإنما يكتفي بإثارة أحاسيسنا وعواطفنا بموسيقاه.



الهوامش:

Etienne Gilson, Matières et formes. Poiétiques particulières des arts majeurs, Paris, Librairie philosophiques, J. Vrin, 1964, p 173.
Etienne Gilson

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.