أعلان الهيدر

الخميس، 19 ديسمبر 2019

الرئيسية الفن والأشكال الرمزية

الفن والأشكال الرمزية


الفن والأشكال الرمزية


تأليف: إرنست كاسيرر
ترجمة وتقديم: أ.د/ كمال بومنير

وُلد إرنست كاسيرر Ernest Cassirer سنة 1874 في مدينة بريسلو، وتوفي سنة 1945 في مدينة نيويورك الأمريكية. هذا، ويُعد كاسيرر أحد أقطاب ما يُسمى ﯨ الكانطية الجديدة Le néo-kantisme ، في فرعها المتمثل في مدرسة ماربورغ Ecole de Marbourg ، التي اهتمت بالمباحث المعرفية والعلمية، وخاصة بالرياضيات والفيزياء، وقد ضمت أيضا هرمن كوهين Herman Cohen وباول ناتوربPaul Natorp . وفي سنة 1906 عُيّن كاسيرر أستاذا في جامعة برلين، ثم أستاذ في جامعة هامبورغ. وبعد وصول النازية إلى الحكم عام 1933 هاجر إلى السويد وصار أستاذا في جامعتها من 1935 إلى 1941، ثم غادرها متجها إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليصير أستاذا في جامعة يال Yale . هذا، ويرى كاسيرر أنّ الفن شكل من الأشكال الرمزية Les formes symboliques إلى جانب كلٍ من الأسطورة والعلم والدين واللغة، التي تسمح لنا بفهم العالَم وتمثله ومن ثمة

إمكانية تنظيمه. غير أنّ الأشكال الفنية في نظر كاسيرر ليست فارغة أو غير ذات معنى وإنما تؤدي وظيفة أو دوراً محددا في بناء التجربة الإنسانية وتنظيمها. من أهم مؤلفاته: "نسق ليبنتز" 1902، "مشكلة المعرفة في الفلسفة والعلم في العصر الحديث" 1906، "مفهوم الجوهر" 1910، "نظرية النسبية لأنشتين" 1921، "فلسفة الأشكال الرمزية" 1923، "الفرد والكون في فلسفة النهضة" 1927، "فلسفة الأنوار" 1932، "مقالة في الإنسان" 1945، " أسطورة الدولة " 1947.

النص:

لا يمكننا اعتبار الفن، على غرار باقي الأشكال الرمزية الأخرى، مجرد استنساخ للواقع بل هو من بين الطرق التي يمكن أن نتوصل من خلالها إلى رؤية موضوعية للأشياء وللحياة الإنسانية. وبذلك فإنّ الفن ليس محاكاة للواقع بل هو بالأحرى اكتشاف لهذا الواقع. ولكن ومع ذلك، يجب أن نشير هنا أنّ الطبيعة التي نكتشفها عبر الفن ليست هي الطبيعة نفسها التي يكتشفها العالِمُ. وعلى هذا النحو يمكننا أن نلاحظ هنا كيف أنّ اللغة والعلم هما في واقع الأمر نمطان أساسيان في بلورة وتحديد تصوراتنا المتعلقة بالعالم الخارجي. وفي هذا المضمار حري بنا أن نصنف الادراكات الحسية وندرجها في مفاهيم عامة وقواعد كونية حتى يكون لها معنى موضوعي. والحقُ أنّ مثل هذا التصنيف هو-بطبيعة الحال- نتيجة مجهود متواصل يبتغي التبسيط والاختصار ليس إلا. هاهنا يمكن أن نلاحظ أنّ العمل الفني يفترض هو أيضا مثل هذا التركيز والاختصار. من المعلوم أنّ أرسطو عندما أراد أن يعرف ما يميّز حقا الشعر عن التاريخ كان قد أكد –فيما يخص هذا التمييز- على الجانب المنهجي. ضمن هذا السياق، يشير أرسطو في كتاب "فن الشعر" إلى أنّ الدراما الشعرية تميل إلى التعبير عن فعل واحد كلي أو عام تتضمن وحدة عضوية على غرار الكائن الحي، في حين أنّ المؤرخ يميل إلى التعبير عن حقبة زمنية واحدة وبعض الأحداث التي وقعت تاريخيا. وعلى هذا النحو يمكننا أن يخّص الجمال والحقيقة أيضا الصيغة الكلاسيكية نفسها، بحيث نقول أنهما يمثلان "وحدة من خلال التنوع". غير أنّ التنويه هنا ليس مماثلا فيما يخص هاتين الحالتين لأنّ اللغة والعلم عادة ما يختزلان الواقع. أما الفن فهو، على العكس من ذلك، عبارة عن تكثيف للواقع. علاوة على ذلك، فإنّ اللغة والعلم يقومان على عملية تجريدية واحدة. وفي مقابل ذلك، يمكننا اعتبار الفن عملية تحقّق دائما على مستوى الواقع. والحال أنّ الوصف العلمي لشيء ما ينطلق من جمع العديد من الملاحظات التي تكوّن للوهلة الأولى جملة من الوقائع غير المترابطة والمنفصلة عن بعضها البعض، غير أنه بمجرد أن نتقدم في البحث فإنّ هذه الوقائع أو الظواهر تأخذ شكلا محدّدا ومنظما. والحقُ أنّ غرض العلم من ذلك كله هو البحث عن الخصائص الأساسية التي تميز شيء ما، بحيث يتم استنتاج منها كل الصفات الخاصة التي تميّزها؛ ها هنا يمكن أن نلاحظ مثلا أنّه إذا استطاع عالمٌ كيميائي معرفة العدد الذري لعنصر ما فإنه في هذه الحالة يستطيع أن يعرف بدقة بنيته ومكوناته. ومن هذا العدد نفسه يمكنه أن يعرف الخصائص التي تميز هذا العنصر. في مقابل ذلك، لا يعرف الفن هذا النوع من التبسيط المفاهيمي والتعميم. فمن المعلوم أنّ الفن لا يبحث عن خصائص الأشياء أو عن الأسباب التي تحدثها وإنما يحاول أن يقدم لنا حدسه للأشكال. بيد أنّ الأمر هنا، في مجال الفن، لا يتعلق بمجرد تكرار ما هو موجود بل إنّ الأمر يتعلق باكتشاف حقيقي وأصيل.
ولعل ما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أنّ الفنّان يكتشف أشكال الطبيعة les formes de la nature مثلما نقول أيضا بأنّ العالم يكتشف وقائع أو قوانين علمية. والحقُ أنّ كل الفنانين الكبار، وعبر كل الأزمنة، كانوا واعين بهذا الدور وبهذه الموهبة الخاصة. وفي هذا المضمار كان ليوناردو دا فينشي Leonardo Di Vinci يقول بأنّ غرض فن الرسم والنحت هو تعلّم رؤية الأشياء. والملاحظ أنّ هذا الأخير كان يعتبر الرسّامين والنحّاتين هم -بلا منازع-كبار "معلمي المرئي" لأنّ معرفة الأشكال الخالصة ليست موهبة طبيعية. وعلى الرغم أننا قد نشاهد شيئا ما أكثر من ألف مرة في حياتنا اليومية ولكننا مع ذلك لا "نرى" شكله. لذلك فإننا –والحقُ يقال- قد نشعر بنوع من الارتباك حينما يُطلب منا وصف شكله الخالص أو بنيته المرئية. انطلاقا من هذا يمكننا القول إنّ الفن وحده من يستطيع إخفاء هذا النقص لأننا هنا في مملكة الأشكال الخالصة، بحيث لا نجد تحليلا للأشياء أو الموضوعات الحسية ولا لما يتعلق بآثارها. 


الهوامش:

Ernest Cassirer, Essai sur l’homme, traduit de l’anglais par Norbert Massa, Paris, éditions De Minuit, 1975, p 205.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.