قيمة العمل الفني في الرسم التشكيلي

تأليف: فرناند ليجيه
ترجمة وتقديم: أ.د/ كمال بومنير
وُلد
الرسّام التشكيلي الفرنسي فرناند ليجيه Fernand Leger عام 1881، درس
الهندسة المعمارية ثم انتقل إلى مدينة باريس ليشتغل رسّاما مع أحد
المهندسين. وقد كان يتابع بانتظام نشاطه الفني في إحدى الأكاديميات الفنية
في باريس. تأثر ليجيه تأثرا كبيرا بلوحات بول سيزان Paul Cézanne ، وخاصة
فيما يخص أهمية الأشكال والأحجام والنسب وكيفية تصميم بنية اللوحة الفنيّة.
كما أنه تأثر أيضا بأعمال الرسّام الفرنسي الكبير روبير دولونيRobert
Delaunay ، وهذا ما يظهر بجلاء في اللوحة الموسومة ﺒ "أسطح منازل باريس".
وفي عام 1924 أنشأ ليجيه مرسما مستقلا مع بعض أصدقائه الرسّامين، وعرض في
عام 1935 لوحاته بمتحف الفن الحديث بنيويورك. لقد رسم ليجي العديد من
اللوحات التي استلهم فيها النزعة التكعيبية ثم تحوّل إلى البنائية
Constructivisme ، وهي نزعة فنيّة تقتضي التزام الفنّان التشكيلي
بالموضوعية الصارمة وفق قوانين الشكل واللون، مع التركيز على بعض الألوانالأساسية كالأزرق والأصفر والأحمر. ثم غلب على لوحات ليجيه الطابع الآلي، حيث أصبح يمثّل الموضوعات الخارجية والطبيعية بالآلات وأدوات معدنية. توفي فرناند ليجيه في عام 1955. ومن أهم لوحاته: "ذات الرداء الأزرق" 1912،"الجندي" 1917، أقراص" 1918،"أسطح منازل باريس" 1920، "ثلاث نساء" 1921، "عناصر ميكانيكية 1922، "وداعا يا نيويورك"1946.

النص:
اعتقد أنّ القيمة الواقعية للعمل الفنيّ مستقلة بالكامل عن كل ما يمت بصلة للمحاكاة. لذلك وجب قبول هذه الحقيقة كمعتقد أو بديهية حتى يتسنى لنا فهم حقيقة الرسم التشكيلي. هذا، وإنني استعمل كلمة واقعي هنا بمعناها الحقيقي لا المجازي عمدا، لأنّ "نوعية العمل الفنيّ التصويري مرتبطة مباشرة بصفتها الواقعية". ولكن ما المقصود بالواقعية في مجال الرسم التشكيلي؟ لا شك أنّ التعاريف لا تفي في أغلب الأحيان بالغرض وقد تكون مضللة أحيانا لأنّ الإحاطة بمفهوم ما بواسطة ألفاظ قليلة قد لا يوضح قي حقيقة الأمر هذا المفهوم بل يبسطه بكيفية غير سليمة ومبتذلة أحيانا. ولكن، ومع ذلك، سأحاول أن أبيّن ذلك بقدر المستطاع، فأقول إنّ النزعة الواقعية التصويرية هي ترتيب متزامن لثلاثة عناصر تشكيلية كبيرة وهي: الخطوط والأشكال والألوان. ولا يمكن أن يدعي عمل فني ما أنه ينتمي إلى النزعة الكلاسيكية الخالصة، أي إلى البقاء بصورة مستقلة عن فترة الإبداع، إذا تم التخلي كليا عن أحد العناصر على حساب العنصرين الآخرين. والحقُ أنني متقين بأنّ مثل هذا التعريف يكتسي طابعا قطعيا ولكن ومع ذلك، اعتقد أنه تعريف ضروري حتى نستطيع تمييز اللوحات الفنية التي تتضمن توجها كلاسيكيا عن غيرها من اللوحات التي لا تحقّق هذا التوجّه. من المعلوم أنّ كل العصور عرفت إنتاج أعمال فنية سهلة حققت نجاحا مباشرا ولكنها –والحقُ يقال-كانت عابرة ولم تدم طويلا؛ فمن هذه الأعمال الفنية من افتقد إلى العمق بغية تحقيق جمال السطح الملوَّن، وأخرى اهتمت بالأسلوب وبالشكل الخارجي ليس إلا. لذلك كان من الضروري أن أعيد وأكرّر ما قلته سابقا أنّ كل العصور عرفت إنتاج أعمال فنية، وأنّ كل هذه الأعمال التي تضمنت بالتأكيد مواهب معتبرة لا تعبّر إلا عن تلك العصور التي ظهرت فيها. والحقُ أنّ هذه الأعمال قد تثير من دون شك اهتمام وفضول الأجيال الحاضرة، ولكن وبما أنها لا تتمتع بالخصائص التي تحقّق الطابع الواقعي المحض، وجب في آخر الأمر أن تختفي. لقد ارتبطت هذه العناصر الثلاثة (الخطوط والأشكال والألوان) التي لا غنى عنها، والتي أشرتُ إليها سابقا، في نظر معظم الرسّامين الذين سبقوا الانطباعيين، بشدة بمحاكاة الموضوع الذي تضمن في ذاته قيمة مطلقة. وباستثناء رسومات الصور الذاتية، فقد استُخدمت كل التركيبات، سواء الزخرفية أو غيرها، في وصف المظاهر أو الجوانب الإنسانية التي كانت تعبّر عن معتقدات دينية أو أسطورية أو حوادث تاريخية معاصرة. لقد رفض الانطباعيون الأوائل "القيمة المطلقة للموضوع ولم يأخذوا بعين الاعتبار إلا القيمة النسبية". وهذه هي الصلة التي تربط وتفسّر لنا كل التطوّر الحديث. فالانطباعيون هم المجدّدون الكبار للحركة الفنية الراهنة، وهذا حينما أرادوا التخلص من المحاكاة. ولم يأخذوا بعين الاعتبار إلا الجانب المتعلق باللون، مع التغاضي عن الأشكال والخطوط. لقد كانت أعمالهم الفنيّة الرائعة نابعة من هذا التصوّر بالذات، ومن إدراكهم وفهمهم للون الجديد [...]من واجب الفنّان أن يكون متوافقا مع عصره، وأن يوازن بذلك الحاجة الطبيعية للانطباعات المتنوّعة. لقد احتل سيزان Cézanne في تاريخ الرسم التشكيلي الحديث المكانة نفسها التي احتلها مانيه Manet بضع سنين قبل ذلك. لقد مثّل هذان الرسّامان مرحلة انتقالية. لقد تخلى مانيه في أبحاثه، ومن خلال حساسيته، شيئا فشيئا، عن الوسائل التي استعملها الفنّانون السابقون ليصل إلى الانطباعية التي يُعتبر بلا منازع مؤسسها الأول. والملاحظ أنه كلما فحصنا جيدا أعمال هذين الرسّاميْن كلما ذُهلنا بتماثلهما التاريخي. لقد استلهم مانيه أعمال الرسّامين الأسبان، فيلاسكيس Velasquez وغويا Goya ، بالأكثر سطوعا، للوصول إلى الأشكال الجديدة. أما سيزان، وعلى العكس من مانيه، فقد بذل قصارى جهده في البحث عن رسم وعن شكل قصد التعبير عن الواقع. ضمن هذا السياق، نستطيع أن نقول بأنّ كل حركات الرسم التشكيلي، وبمختلف اتجاهاتها، قد اتسمت بالطابع الثوري وبردود الأفعال لا بالطابع التطوّري. لقد قام مانيه بعملية الهدم حتى يصل إلى أعماله الإبداعية. أما حينما نعود إلى رسّامي القرن الثامن عشر، الذين تميّزوا بأساليبهم المتكلّفة، ثم من خلفهم من رسّامين كدافيد David وانغرس Ingres ومدرستهما، سنجد رد فعلهم على المبالغة في استعمال الصيغ المخالفة. أما دولاكروا Delacroix فقد عاد إلى النزعة الحسية فيما يخص اللون والدينامية الكبيرة في الأشكال والرسم. ولكن ومع ذلك بإمكاننا القول إنّ هذه الأمثلة لا تكفي لتوضيح كيف أنّ التصوّر الجديد لفن الرسم ليس مجرد رد فعل تجاه الأفكار الانطباعية، بل وعلى العكس من ذلك، كان غرضه تطوير وتوسيع هذا الفن عبر استعمال الوسائل أهملها هؤلاء الرسّامون. ولكن، وفي مقابل الطابع التقسيمي للون Divisionnisme الذي ميّز أعمال الانطباعيين، فقد حل محله بحث مشابه للطابع التقسيمي للشكل والرسم لا من خلال تباين ساكن.
وهكذا، نستطيع القول بأنّ أعمال الانطباعيين لا تمثل –بطبيعة الحال- نهاية حركة (فنيّة) بل بداية حركة أخرى يُعتبر الرسّامون المحدثون من دون شك استمرارا لها. وستكون العلاقة بين النسب والخطوط والألوان أساس كل الأعمال الفنيّة في هذه السنوات الأخيرة. بل ولكل ذلك التأثير الذي ساد في الوسط الفنّي سواء كان في فرنسا أو في الخارج. ومن الآن فصاعداً يمكن أن يسهم في تحقيق الواقعية التي يمكن الحصول عليها من خلال وسائل دينامية خالصة. إنّ التباينات التصويرية المستعملة بمعناها الخالص (عبر تكامل الألوان والخطوط والأشكال) بعد الآن دعائم للوحات الحديثة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق