أعلان الهيدر

الأربعاء، 18 ديسمبر 2019

الرئيسية الدين والفضاء العمومي

الدين والفضاء العمومي


الدين والفضاء العمومي

تأليف: يورغن هابرماس
ترجمة: أ. د/ كمال بومنير


إنّ الاعتراف بالحرية الدينية وحرية المعتقد كحقوق أساسية هي بمثابة إجابة سياسية مناسبة فيما يخص مواجهة تحديات التعددية الدينية. وهكذا، وعلى مستوى التفاعلات الاجتماعية بين المواطنين، يمكننا تفادي العديد من النزاعات المحتملة، ولكن هذا لا يمنع من استمرارها على المستوى المعرفي بين غير المؤمنين والمؤمنين من مختلف الديانات، من دون أن تحسم نهائيا، وهذا من خلال مقابلة الاعتقادات وثيقة الصلة بالواقع الوجودي. ومع ذلك، وحتى يتم ضمان حرية دينية يتساوى فيها الجميع، إذا كان الطابع العلماني للدولة شرطا أساسيا، فإنه ليس شرطا كافيا. والحقُ أنّ وجود سلطة علمانية تسمح بوجود أقليات مميّزة لا يحقق -والحقُ يقال- أي شيء حاسم أو مقنع لأنه يجب على الأطراف المعنية نفسها أن تتفق على الفواصل الهشة أو العابرة، التي تحدّد من جهة، الحق الايجابي في ممارسة الشعائر الدينية، ومن جهة ثانية، الحرية السلبية، التي يراعي كل واحد منا الآخر أثناء ممارسته الدينية. وحتى لا يُتهم مبدأ التسامح بوضع حدود للتسامح من وجهة نظر قمعية، فإنّ تحديد ما هو مسموح به، وما لم يعد مسموحا به، يقتضي وجود مسوّغات تتسم بالوضوح بالنسبة لكل الأطراف المعنية، بحيث يتم قبولها من قبل هذه الأطراف. ولكن ومع ذلك، ليس بإمكاننا الوصول إلى تسويات منصفة إلا إذا تعّلم الأشخاصُ المعنيون كيف يقرّون أيضا موقف منظورات الآخرين المخالفين لهم. وليس من شك أنّ العملية المناسبة لتحقيق هذا المقصد يتمثل في المفهوم التشاوري للتكوين الديمقراطي للإرادة. وعلى كل حال، يجب ممارسة السلطة السياسية في الدولة العلمانية،على قاعدة غير دينية. وعلى الدستور الديمقراطي سد العجز فيما يخص عملية الشرعنة Légitimation الناتجة عن حياد الدولة عندما يتعلق الأمر برؤى العالم. وعلى هذا الأساس يمكن أن تنبثق من هذه الممارسة العديد من الحقوق الأساسية، وفي هذه الحالة يجب على المواطنين الأحرار والمتساويين أن يصلوا إلى اعتراف متبادل إذا أرادوا فعلا أن يحققوا مطلب العيش المشترك من خلال القانون الوضعي، بكيفية مستقلة ومعقولة. هذا، وتجدر الإشارة إلى أنّ قوة إقناع العملية الديمقراطية الشرعية ترتكز على مقوّمين أساسيين: الأول، يتمثل في تساوي المواطنين فيما يخص المشاركة السياسية، وهذا ما يضمن للذين يتلقون القوانين إمكانية تماثلهم مع واضعي هذه القوانين، أما المقوّم الثاني فيتمثّل في البُعد الابيستمي (المعرفي) المرتبط بشكل الجدال المنظم بواسطة النقاش Discussion ، والذي يؤسس بدوره افتراض النتائج المقبولة من الناحية العقلية. ليس من شك أنّ حسم بعض المواطنين فيما يخص بعض السلوكيات وبعض القناعات، بعيدا عن كل إكراه قانوني ما، يمكن تفسيره بهذه المقوّمات التي تضفي عليها طابع الشرعية. إنّ الشروط التي تحدّد المشاركة الايجابية لممارسة التحديد الذاتي الذي يتحقق باشتراك الجميع هي نفسها ما يحدّد دور المواطنين. لذلك، كان لزاما على هؤلاء المواطنين، مهما اختلفت رؤاهم للعالم وقناعاتهم الدينية، أن يحققوا الاحترام المتبادل، باعتبارهم متساويين في الحقوق داخل كيان سياسي واحد؛ وهكذا، وانطلاقا من هذا التضامن المدني، وحينما يكون هناك أمر متنازع فيه، يجب أن يصلوا إلى تفاهم أو توافق مبرّر عقليا، بحيث يعمل كل طرف على إقناع الآخر بحجج مقنعة. لقد قال جون راولس John Rawls مفسرا ذلك بأنّه على المواطنين واجب الكياسة والاستعمال العمومي للعقل: إنّ المثل الأعلى للمواطنة يفرض واجبا أخلاقيا، غير قانوني، أي واجب الكياسة، لتبين للآخرين كيف يمكن، بالنسبة لهذه المسائل الأساسية، المتعلقة بالمبادئ والبرامج التي يدافعون عنها، والتي ينتخبون عليها، يمكن أن تتأسس على قيم سياسية للعقل العمومي. والحقُ أنّ هذا الواجب يلزم عنه أيضا أن نكون مستعدين لسماع آراء الآخرين ثم اتخاذ القرار بنزاهة للتنازل لصالح موقفهم حينما يكون معقولا.
يجب على تجمع المواطنين الأحرار والمتساويين، الذي تم تأسيسه على معاييره الخاصة ويقرّر بنفسه، أن يظهر حتى يجد الاستعمال العمومي للعقل قاعدته المرجعية، وحتى يتمكن المواطنون من تسويغ لبعضهم البعض مواقفهم السياسية في ضوء ( تفسيرات معلّلة أو مبرّرة) للمبادئ الدستورية. هذا، وقد استند راولس بخصوص هذه المسألة إلى "قيم العقل العمومي" وإلى تلك " المقدمات التي قبلناها وكان من المعقول الاعتقاد بأن الغير سيتبناها أيضا"، وذلك، لأنّه وفي إطار الدولة المحايدة فيما يخص رؤى العالم لا يمكن التسليم إلا بشرعية القرارات السياسية Les décisions politiques التي يمكن تسويغها بصورة محايدة ونزيهة من خلال أسباب مقبولة لدى الجميع، أي مقبولة في نظر المواطنين الذين يعتنقون ديانة معينة أو الذين لا يعتنقون أية ديانة أو يعتنقون ديانة أخرى. إنّ ممارسة سلطة لا يمكننا تسويغها بصورة محايدة ونزيهة غير شرعية لأنّ مثل هذه الممارسة تعبّر في حقيقة الأمر عن فرض طرف لإرادته على طرف آخر.ضمن هذا السياق، على مواطني الكيان السياسي الديمقراطي تبادل الحجج لأنّ هذا هو الطريق الوحيد الذي يزيل الطابع القمعي عن السلطة السياسية، وينتج عن هذا الاعتبار" بُند تقليصي" وهو موضوع للنزاعات أو الخصومات، الذي يمكن تطبيقه على الاستعمال العمومي للعقول غير العمومية، وهذا في الوقت الذي يُلزم مبدأ الفصل بين الكنائس والدولة الهيئات السياسية والإدارية بصياغة وتسويغ القوانين وقرارات العدالة والمراسيم والإجراءات، بلغة مستساغة لدى جميع المواطنين. غير أنّ المواطنين والأحزاب السياسية ومرشحيهم والتنظيمات الاجتماعية والكنائس وجماعاتها الدينية غير خاضعة –بطبيعة الحال- لمثل هذا التصرّف الصارم في الفضاء العمومي. "إنّ السبب الأول يكمن في ما يلي: يمكن إدخال المذاهب المعقولة ذات الطابع الكلي الشمولي Totalisantes الدينية أو غير الدينية، في النقاش السياسي العمومي في أية لحظة، علما أنّه، وفي الوقت المناسب، سيتم تقديم أسباب سياسية محضة، غير صادرة عن هذه المذاهب وحدها، بحيث تكون كافية لدعم هذا الجانب أو ذاك، المخولة لدعم تلك المذاهب. يعني هذا أنّ الأسباب السياسية التي قدمناها، بحسب الحال،لا يمكن أن تكون مجرد أعذار نتذرع بها، بل يجب أن نعتبرها أيضا مستقلة عن السياق الديني الذي انبثقت منه.
والحالُ أنّ الدولة لا تضمن، حسب المفهوم الليبرالي، الحريّة الدينية إلا إذا قبلت الجماعات الدينية، انطلاقا من تقاليدها الخاصة، ليس فقط حياد المؤسسات العمومية بناءً على رؤى العالم، وبالتالي الفصل بين الكنائس والدولة، بل وبالإضافة إلى ذلك، ما أسميه بالتحديد التقليصي للاستعمال العمومي للعقل من طرف المواطنين. لقد أكد راولس أهمية هذه المقتضيات حتى عندما تواجه الاعتراض الذي يكوّنه حول نفسه: "كيف يمكن أن يدعم أولئك الذين يناضلون في سبيل إيمانهم نظاما دستوريا، يخضعون لسلطته، ولكن مذاهبهم الكلية والشاملة نفسها قد لا تزدهر، بل وأكثر من ذلك، قد يكون مآلها الزوال". الملاحَظ أنّ هذا التصوّر الراولسي (نسبة إلى راولس) للاستعمال العمومي للعقل قد أثار –من دون شك-انتقادات عديدة. ولم تدر الاعتراضات حول المقدمات الليبرالية بشكل أساسي وإنما دارت على وجه الخصوص على ذلك التحديد الضيق والعلماني للدور السياسي الذي يمكن أن يلعبه في إطار نظام ليبرالي. ويبدو، مع ذلك، في نهاية المطاف، أنّ التباعد القائم يعبّر عن إعادة نظر في النظام الليبرالي Libéralisme في بُعده الجوهري. وما يهمني هنا هو الحد الذي يعارض المقتضيات غير شرعية من وجهة نظر القانون الدستوري. لا يمكن أن نخلط بين حجج ترافع لصالح إعطاء أهمية أكبر للدور السياسي للدين، وغير المتوافقة مع الطابع العلماني للدولة الدستورية، واعتراضات مسوَّغة مخالفة للفهم العلماني للديمقراطية ولدولة القانون. يلزم من هذا أنّ مبدأ الفصل بين الكنائس والدولة يتطلب من مؤسسات الدولة التجرّد أو النزاهة الكاملة فيما يخص تعاملها مع الجماعات الدينية؛ إنّ البرلمان ومجلس القضاء، والحكومة والإدارة تخالف إلزامية الحياد بالنسبة لرؤى العالم عندما تفضل جهة على حساب جهة أخرى. وبالمقابل، فإنّ المقتضى العلماني القائم على ضرورة امتناع الدولة عن كل ممارسة سياسية تدعم فيها الدين أو تمنعه (وفق مبدأ ضمان الحريّة الدينية) تعتبر قراءة ضيقة لهذا المبدأ. ولكن ومع ذلك، فإنّ رفض العلمانية ليس معناه أنّ المجال أصبح مفتوحا للقيام بمراجعات قصد إلغاء فصل الكنائس عن الدولة. لكن يبقى أنّ قبول التسويغات Justifications الدينية في العملية التشريعية، كما سنرى، هو مساس بالمبدأ نفسه.

الهوامش:


Jürgen Habermas, Entre naturalisme et religion, Traduit de l’allemand par Christian Bouchindhomme et Alexandre Dupeyrix, Paris, Gallimard, 2008, pp 177-180.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.