الدين والفضاء العمومي
تأليف: يورغن هابرماس
ترجمة: أ. د/ كمال بومنير
يجب على تجمع المواطنين الأحرار والمتساويين، الذي تم تأسيسه على معاييره الخاصة ويقرّر بنفسه، أن يظهر حتى يجد الاستعمال العمومي للعقل قاعدته المرجعية، وحتى يتمكن المواطنون من تسويغ لبعضهم البعض مواقفهم السياسية في ضوء ( تفسيرات معلّلة أو مبرّرة) للمبادئ الدستورية. هذا، وقد استند راولس بخصوص هذه المسألة إلى "قيم العقل العمومي" وإلى تلك " المقدمات التي قبلناها وكان من المعقول الاعتقاد بأن الغير سيتبناها أيضا"، وذلك، لأنّه وفي إطار الدولة المحايدة فيما يخص رؤى العالم لا يمكن التسليم إلا بشرعية القرارات السياسية Les décisions politiques التي يمكن تسويغها بصورة محايدة ونزيهة من خلال أسباب مقبولة لدى الجميع، أي مقبولة في نظر المواطنين الذين يعتنقون ديانة معينة أو الذين لا يعتنقون أية ديانة أو يعتنقون ديانة أخرى. إنّ ممارسة سلطة لا يمكننا تسويغها بصورة محايدة ونزيهة غير شرعية لأنّ مثل هذه الممارسة تعبّر في حقيقة الأمر عن فرض طرف لإرادته على طرف آخر.ضمن هذا السياق، على مواطني الكيان السياسي الديمقراطي تبادل الحجج لأنّ هذا هو الطريق الوحيد الذي يزيل الطابع القمعي عن السلطة السياسية، وينتج عن هذا الاعتبار" بُند تقليصي" وهو موضوع للنزاعات أو الخصومات، الذي يمكن تطبيقه على الاستعمال العمومي للعقول غير العمومية، وهذا في الوقت الذي يُلزم مبدأ الفصل بين الكنائس والدولة الهيئات السياسية والإدارية بصياغة وتسويغ القوانين وقرارات العدالة والمراسيم والإجراءات، بلغة مستساغة لدى جميع المواطنين. غير أنّ المواطنين والأحزاب السياسية ومرشحيهم والتنظيمات الاجتماعية والكنائس وجماعاتها الدينية غير خاضعة –بطبيعة الحال- لمثل هذا التصرّف الصارم في الفضاء العمومي. "إنّ السبب الأول يكمن في ما يلي: يمكن إدخال المذاهب المعقولة ذات الطابع الكلي الشمولي Totalisantes الدينية أو غير الدينية، في النقاش السياسي العمومي في أية لحظة، علما أنّه، وفي الوقت المناسب، سيتم تقديم أسباب سياسية محضة، غير صادرة عن هذه المذاهب وحدها، بحيث تكون كافية لدعم هذا الجانب أو ذاك، المخولة لدعم تلك المذاهب. يعني هذا أنّ الأسباب السياسية التي قدمناها، بحسب الحال،لا يمكن أن تكون مجرد أعذار نتذرع بها، بل يجب أن نعتبرها أيضا مستقلة عن السياق الديني الذي انبثقت منه.
والحالُ أنّ الدولة لا تضمن، حسب المفهوم الليبرالي، الحريّة الدينية إلا إذا قبلت الجماعات الدينية، انطلاقا من تقاليدها الخاصة، ليس فقط حياد المؤسسات العمومية بناءً على رؤى العالم، وبالتالي الفصل بين الكنائس والدولة، بل وبالإضافة إلى ذلك، ما أسميه بالتحديد التقليصي للاستعمال العمومي للعقل من طرف المواطنين. لقد أكد راولس أهمية هذه المقتضيات حتى عندما تواجه الاعتراض الذي يكوّنه حول نفسه: "كيف يمكن أن يدعم أولئك الذين يناضلون في سبيل إيمانهم نظاما دستوريا، يخضعون لسلطته، ولكن مذاهبهم الكلية والشاملة نفسها قد لا تزدهر، بل وأكثر من ذلك، قد يكون مآلها الزوال". الملاحَظ أنّ هذا التصوّر الراولسي (نسبة إلى راولس) للاستعمال العمومي للعقل قد أثار –من دون شك-انتقادات عديدة. ولم تدر الاعتراضات حول المقدمات الليبرالية بشكل أساسي وإنما دارت على وجه الخصوص على ذلك التحديد الضيق والعلماني للدور السياسي الذي يمكن أن يلعبه في إطار نظام ليبرالي. ويبدو، مع ذلك، في نهاية المطاف، أنّ التباعد القائم يعبّر عن إعادة نظر في النظام الليبرالي Libéralisme في بُعده الجوهري. وما يهمني هنا هو الحد الذي يعارض المقتضيات غير شرعية من وجهة نظر القانون الدستوري. لا يمكن أن نخلط بين حجج ترافع لصالح إعطاء أهمية أكبر للدور السياسي للدين، وغير المتوافقة مع الطابع العلماني للدولة الدستورية، واعتراضات مسوَّغة مخالفة للفهم العلماني للديمقراطية ولدولة القانون. يلزم من هذا أنّ مبدأ الفصل بين الكنائس والدولة يتطلب من مؤسسات الدولة التجرّد أو النزاهة الكاملة فيما يخص تعاملها مع الجماعات الدينية؛ إنّ البرلمان ومجلس القضاء، والحكومة والإدارة تخالف إلزامية الحياد بالنسبة لرؤى العالم عندما تفضل جهة على حساب جهة أخرى. وبالمقابل، فإنّ المقتضى العلماني القائم على ضرورة امتناع الدولة عن كل ممارسة سياسية تدعم فيها الدين أو تمنعه (وفق مبدأ ضمان الحريّة الدينية) تعتبر قراءة ضيقة لهذا المبدأ. ولكن ومع ذلك، فإنّ رفض العلمانية ليس معناه أنّ المجال أصبح مفتوحا للقيام بمراجعات قصد إلغاء فصل الكنائس عن الدولة. لكن يبقى أنّ قبول التسويغات Justifications الدينية في العملية التشريعية، كما سنرى، هو مساس بالمبدأ نفسه.
الهوامش:
Jürgen Habermas, Entre naturalisme et religion, Traduit de l’allemand par Christian Bouchindhomme et Alexandre Dupeyrix, Paris, Gallimard, 2008, pp 177-180.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق