نحو فضاء عمومي معارض (ج1)
نحو فضاء عمومي معارض
الجزء الأول
تأليف: أوسكار نيغت
ترجمة وتقديم: أ.د/ كمال بومنير
أوسكار نيغت Oskar Negt فيلسوف ألماني معاصر (وُلد عام 1934) يعد أحد
ممثلي النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت ضمن الجناح الفكري (النابع –بطبيعة
الحال- من داخل النظرية النقدية) الذي أصبح يسمى اليوم ﺑ "التيار الساخن"
Le courant chaud وهو تيار يضم أيضا بعض الفلاسفة الفرانكفورتيين (ألكسندر
كلوغه Alexandre Kluge، راينر زول Rainer Zoll، غيرهرت براندت Gerhard
Brandt ، ديتليف كلاوسنDetlev Claussen ) المناهضين للمشروع التواصلي
الهابرماسي ولبراديغم الاعتراف الهونيثي. والحقُ أنّ مقصد هذا التيار
"الساخن" هو إحياء الطابع الراديكالي (الماركسي) للنظرية النقدية حتى
تتجاوز الانسداد الفكري الذي وقعت فيه هذه الأخيرة فيما يخص العلاقة بين
النظرية والممارسة، وهذا بغرض إيجاد بدائل حقيقية لتغيير وضع الإنسان
المعاصر الذي لا زال يعاني العديد من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية
والسياسية (البطالة، الاستغلال، التهميش، الاحتقار، العنصرية، الخ) في ظل
الأزمات العالمية الاقتصادية والمالية المتتالية التي تعرفها الرأسمالية
المتوحشة في الوقت الحالي . من أهم أعمال أوسكار نيغت نذكر: "السياسة
كاحتجاج: خطابات ومحاولات حول الحركة المضادة للسلطة" 1971، "الفضاء
العمومي والتجربة: حول تحليل اتنظيم الفضاء العمومي البرجوازي والبروليتاري
"1972 ،"لا ديمقراطية بدون اشتراكية: بخصوص العلاقة بين السياسة والتاريخ
والأخلاق" 1976، "الأبعاد السياسية والثقافية للصراع من أجل وقت العمل"
1984، "حول تحديات النقابة" 1988، "التيار البارد" 1994، "ماي 1968:
المثقفون السياسيون والسلطة" 1995، "الطفولة والمدرسة في عالم متحوّل"
1997، "العمل والكرامة الإنسانية" 2001، "كانط وماركس" 2003، "الديمقراطية
كنمط حياة" 2010، "حول السعادة" 2016.
النص:
ليس من شك
أنّ كل الحواجز التي وُضعت أمام التطور الحر للرأسمالية الممّثلة فيما يسمى
بالدولة الاجتماعية بدأت تتآكل منذ حوالي عشرين سنة تقريبا، وأصبحت اليوم
معرضةً لتصدعات كبيرة. أما الصيغ المتداولة بحسب الموضة السائدة في الوقت
الحالي فهي تقوم -بطبيعة الحال- على "استبعاد وجود الدولة". وهذا يعني
أنّنا أصبحنا نرغب في إلغاء كل أشكال الرقابة Die Kontrolle حتى تستطيع
القوى المبدعة للرأسمالية أن تسير وفق مجراها الطبيعي، بل قد وصل الأمر إلى
حدٍ أصبحت فيه هذه القوى تظهر بجلاء التدمير الذاتي الذي تعرّض له النظام
الرأسمالي، وهو الأمر الذي أصبح يقتضي –والحقُ يقال- تدخل الدول لإنقاذ
هذا النظام عبر ضخ ملايير من الدولارات، ولا أدري من سيدفع ثمن نقل
الميزانية العمومية نحو هذا العالم المالي. ولكن ومع ذلك يجدر بنا القول
إنّ الرأسمال المالي Finanzkapitalismus ليس الرهان الوحيد، ما دام أنّ
جملة من التغييرات الاجتماعية العميقة قد وقعت أمام أنظارنا؛ وعلى سبيل
المثال، يمكن أن نذكر هنا ضمن هذا السياق بأنّ مشكلة البطالة الدائمة، وهي
في حقيقة الأمر مشكلة ظرفية مرتبطة بالركود الاقتصادي، كما أنّ الكل يعلم
أنّ صناعة السيارات لم تعد في حاجة كبيرة إلى اليد العاملة. والحقُ أنّ
عقلنة عمليات إنتاج البضائع التجارية، كالسيارات وآلات الغسيل والحواسيب،
أصبحت تستغني، على نحو متزايد، عن العمل الإنساني. هذا، ومن المعلوم أنه قد
ظهرت منذ الثمانينات فكرة "مجتمع الثُلثين". وبحسب هذه الفكرة فإنّ ثلثي
المجتمع يتكوّن من أشخاص لهم مناصب ووجهات نظر فعلية في المجتمع، في حين
أنّ الثلث المتبقي محكوم عليه بالعيش على الهامش. ولكن ومع ذلك فإنني اعتقد
بأنّ هذه الفكرة قد تم تجاوزها اليوم؛ ففي مجتمعاتنا المتقدمة – ولا أتحدث
هنا عن تلك المجتمعات التي تشكل أغلبية سكان المعمورة- نجد أنّ ثلث
السكّان أصبحوا اليوم مندمجين ويشعرون بالراحة الكاملة وكأنهم غير معنيين
بالأزمة الحالية؛ منها على وجه الخصوص ما يتعلق بالإدارة البنكية التي
تسببت في إفلاس المؤسسات البنكية. ومع ذلك، لا يجدون حرجا من الحصول على
علاوات معتبرة من هذه البنوك نفسها. والحقُ أنّ هؤلاء الناس يسلبون أموال
وثروات المجتمع ومع ذلك يشعرون بالاطمئنان على المستوى السياسي، وينتخبون
بالأغلبية على أنغيلا ميركل ونيكولا ساركوزي وسيلفيو برليسكوني. أما الثلث
الآخر من المجتمع فهو يمثّل قوة حساسة، وهي –من دون شك-قوة تعيش ضمن ظروف
حياتية هشة، بحيث تنتقل من عمل إلى عمل آخر ومن عقد إلى عقد آخر، وهو الأمر
الذي لا يسهّل تبيّن مستقبل هؤلاء الناس مادام أنّ أفق الحياة بالنسبة إلى
هؤلاء معرض للتغيّر يوميا. أما الثلث الأخير فيتمثل في "الجيش" المتزايد
من الأفراد الذين لم يعد النظام الإنتاجي القائم في حاجة إليهم. وأعتقد أنّ
فصل هؤلاء الأفراد عن مجال الحياة والعمل السائد في المجتمع لأمر خطير
جدا، لأنّه سيؤدي إلى مشكلة بنيوية داخل هذا المجتمع نفسه. وما الأزمة
المالية الحالية إلا مجرد عرض لهذه المشكلة وليست سببا لها. لقد قال الصحفي
الأمريكي جريمي ريفكين Jeremy Rifkin في هذا المجال "إنّ استغلال الناس
أمر خطير ومأساوي، ولكن الأخطر من ذلك أن نستغني عنهم". هذا وتجدر الإشارة
إلى أنني تطرقتُ هنا إلى ما يحدث في عمق مجتمعاتنا وما يمكن أن يؤدي إلى
الاضطراب الذي يحدث في وول ستريت Wall street أو البنوك الأمريكية. ليس من
شك أنّ قلق الناس وتخوفهم قد تزايد إلى الغاية، واشتد الأمر عليهم إلى
درجة أنهم أصبحوا عاجزين عن تخيّل مستقبلهم حتى يزيل عنهم هذا التخوّف
ويجيبهم عن السؤال الأساسي المتعلق بمعرفة الحد الذي وصل إليه العمل الحي
في مقابل العمل الميت للرأسمال؟وحتى نصل إلى حل لهذه المعضلة يجب أن نقّر
بأنّ جزءا محدودا من النشاط يأخذ على عاتقه الإنتاج التجاري، ولا أعتقد أنه
من المفيد الاحتفاظ بمجموعة المصانع التي ساهمت في خلق البؤس الحالي بسبب
نظامها الإنتاجي الزائد حتى وإن كنتُ أشعر على المستوى الذاتي مدى خطورة
البطالة، والحاجة إلى دعم الدولة فيما يخص هذا المجال. لذلك يجب الاعتراف
أولا وقبل كل شيء بأنّ ذلك لا يحل المشكلة بنيويا. لذا، فإنني أعتقد أنّه
صار من الضروري اليوم صياغة مفهوم جديد للعمل يكون موجها نحو تحقيق الخير
المشترك وممولا من طرف الجماعة. ولكن، حينما يتم استبعاد معايير التسيير
الاقتصادي عن هذا الخير المشترك، في الوقت الذي تهيمن عليه رؤية ضيقة فيما
يخص تسيير المؤسسة الاقتصادية. إذ ذاك سنواجه حتما نمطا اقتصاديا قائما على
التبذير وليس على العقلنة Die rationalisierung . ضمن هذا السياق يمكننا
أن نذكر العديد من الأمثلة التي يمكن أن توضح لنا ذلك؛ يمكننا أن نذكر على
وجه الخصوص تلك الميزانيات المخصصة للجامعات والمستشفيات، بحيث يتم
الاقتصاد في كل ما يتعلق بهذه المؤسسات، ولكن، وفي المقابل، تظهر فجأة
ميزانيات تعد بالملايير لتعويم البنوك. والحقُ أنّ هذا التناقض القائم بين
إفقار السكان من جهة، والثراء الفاحش للاقتصاد من جهة أخرى لم يستوعبه بعدُ
كثيرٌ من الناس. ولكن ومع ذلك، فهو يخلق –بطبيعة الحال- رواسب ذهنية ستؤدي
في آخر المطاف إلى ظهور أشكال من الغضب والرفض والمقاومة والحاجة إلى
التعبير عنها. لذا، يجب التفكير جديا في الجانب الاقتصادي بكيفية أخرى
حينما يتم إعادة إدماجه في بُعده الثقافي. ولكن ماذا نعني بالنشاط
الاقتصادي؟ ما معنى العمل اليوم؟ وما هو هدف الحياة الطيبة؟ يجب وضع حد
لاقتصاد التبذير السائد، الذي أسميه الاقتصاد الأول، بحيث ننتقل إلى شكل
اقتصادي آخر، أي إلى ما يسمى ﺑ اقتصاد التوفير، بحيث يتم الاستثمار في مجال
التربية والتكوين، وفي مجالات أخرى تكتسي من دون شك أهمية بالغة في نظرنا.
ضمن هذا السياق تظهر أهمية إنشاء فضاء عمومي Öffentlichkeit مناسب ، من
حيث أنه يمثل فعلا أساسيا، إذ ليس بإمكان أحد أن يخرج عن الدائرة المغلقة
للوضع الحالي من قواه الفردية الخاصة. ومن هنا تأتي ضرورة تشكيل فضاء عمومي
خاص باعتباره أحد العناصر الحاسمة للمقاومة وخلق البدائل الممكنة. والحقُ
أنني أعزو للفضاء العمومي الدور الأساسي في بروز الوعي بهذا الزمان. أما في
الوقت الحالي، فإنني اعتقد أنّ النقابات لم تتوصل بعد إلى تشخيص حقيقي
للمشاكل التي نواجهها في ظل المجتمع الرأسمالي.
الهوامش:
Oskar Negt, «
L’espace public oppositionnel aujourd’hui » traduit de l’allemand par
Alexander Neumann, Multitudes, 2009/nº 39, pp 190-191.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق