الفضاء العمومي المعارض اليوم
الجزء الثاني
تأليف: أوسكار نيغت
ترجمة وتقديم: أ.د/ كمال بومنير
على أنه يجب التنبيه، بهذا الصدد، إلى أنه يوجد في الوقت الحالي خطر كبير أن تستولي الحكومات المحافظة في أوربا عل وسائل الإعلام والتلفزيون والصحافة. وهذا ما وقع بالفعل في إيطاليا مع سيلفيو برلسكوني، وما يقع اليوم أيضا في فرنسا وما سيقع غدا في ألمانيا. وبما أنّ المظاهر البنيوية للأزمة غير مرئية لجميع الناس، بحيث أنّ وسائل الإعلام لازالت تخفي هذا الواقع وتتجاهله فإنّ هذا يدفعنا إلى القول أننا في حاجة ماسة اليوم إلى واقع معارض أكثر أهمية من تلك المبادرات المنتظمة التي تم الشُروع فيها سابقا. وغير خافٍ أنّ النقابات لازالت تشكل إلى يومنا هذا منظمات جماهيرية وأطر هامة يمكن أن يتوسع فيها الفضاء العمومي المعارض Espace public oppositionnel عبر فئة الأساتذة والطلبة وفئات أخرى أيضا، وذلك لأنّ هذه الأزمة تمس نفسية الكثير من الناس من الطبقات المتوسطة، علما أنّ هذه الطبقات بدأت تنهار اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الحلم الأمريكي أيضا. هذا، ويجدر بنا أن نشير إلى أنّ الطبقة المتوسطة أصبحت معرضة للتشظي بشكل كبير في كل مكان، وخاصة في ألمانيا والنمسا، وهذا يعني أننا أصبحنا نواجه مشكلة بنيوية لا ظرفية، أو بعبارة أخرى إننا أصبحنا نواجه أزمة ثقافية تتغذى بجملة من التطورات الاقتصادية المتلاحقة التي أصبحت تعمّق هذه المشكلة حقا. ضمن هذا السياق أوّد أن أؤكد على معنى الأزمة الثقافية كما أفهمها؛ ليس من شك أنّ أنظمتنا القيمية والمعيارية القديمة تمر هي أيضا بأزمة، بحيث أصبحت تهز المعايير والقيم القديمة التي يصعب نقلها إلى الأجيال الشابة في الوقت الذي نفتقد فيه إلى معايير وقيم جديدة يمكن أن تعوض القديم منها. لقد انتقلنا إلى مرحلة البحث الثقافي الفعال سعيا للوصول إلى المعنى Le sens. تجدر الإشارة إلى أنّ عالم الاجتماع الفرنسي الشهير إميل دوركايم Emile Durkheim كان قد استعمل -قصد وصف هذا الوضع الغامض- مصطلح "اللانظامية" أو الشذوذ Anomie (فوضى ناجمة عن فقدان النظام الطبيعي) في الوقت الذي يتم التخلي عن استعمال القواعد بشكل فوضوي، وهذا على الرغم أنها موجودة ولكن ومع ذلك، لا ينتج عنها شيء. والحالُ أنني سأشير هنا ما قاله دوركايم بخصوص "الفراغ الأخلاقي"، غير أنه لا يعني بذلك أنه لا يمكن أن تكون لنا مواقف أخلاقية وإنما لم تعد للأخلاق القديمة صلاحية في الزمن الراهن. ولكن ومع ذلك فإنّ نتناول جانبا معينا يتضمن من دون شك مخاطرة كبيرة. هذا، ومن المعلوم أنّ النظام الرأسمالي الحالي يحاول جاهدا تحطيم العلاقات الاجتماعية؛ فعندما يبدي مجموعة الموظفين أو المستخدمين في مؤسسة مثل سيمنس Siemens أو بيجو Peugeot أو في غيرها من المؤسسات، تعلقهم بمجموع العمال المشتغلين في المصنع فإنه يصعب تنظيم الأجراء، بحيث يكتفي الموظفون أو المستخدمون بأداء "وظيفتهم" ولا يفكرون في مقاومة التسريح من العمل. والحقُ أنّ غياب الصلة هو هدف برنامجي للمجتمع المحدّد بنظامه الاقتصادي. أضف إلى ذلك أنّ الليبراليين، ومنهم داهندورف Dahendorf يخشون وجود عالم خالٍ من الروابط، بحيث يكون دافعه الأساسي هو العنف ليس إلا. فحيثما تضيع الروابط المباشرة تزداد إمكانية العنف في المجتمع. رغم أنّ هذا المفكر كان من الأوائل الذين أشادوا بغياب مثل هذه الروابط ضمن عالم اتخذ اليوم طابعا معولما Mondialisé. لذلك أصبح الكثير من الليبراليين اليوم يتخوفون اليوم من آثار النظام الذي طالما كانوا يدافعون عنه. لنأخذ مثالين فيما يخص زوال العلاقة الاجتماعية من دون تعويضها بشيء آخر؛ وأشير هنا إلى الطوباويين الكبار من أمثال كمبانيلا وفرانسيس بيكون وتوماس مور الذين كانوا يحلمون بإمكانية تفرغ الناس للحياة الثقافية حينما يصبح العمل منتجا بشكل واسع. لقد مال كمبانيلا إلى حياة ثقافية متمركزة على الصلاة والتأمل الديني، أما فرانسيس بيكون فقد اعتقد أنّ مدة 9 ساعات من العمل أسبوعيا كافية لضمان السعادة المادية لجميع الناس، وبالتالي يمكن تخصيص الوقت الحر لتحقيق نوعية وجودة الحياة. ولكن لو اطلع هؤلاء الطوباويون على ما يجري في المجتمعات الحالية سيجدون أننا أصبحنا ننتج أكثر من ألف مرة مما كان يُنتج في مجتمعاتهم، حينئذ سيدركون أننا نتخبط اليوم في مشاكل اقتصادية بل سيعتقدون أننا مجانين. وهذا لأمر صحيح، فمن الجنون أن نقلق باستمرار بالعوامل التي تؤدي إلى فائض في الإنتاج تشبع السوق. والحقُ أنه في هذه الحالة سيبقى خفض وقت العمل عنصرا أساسيا لكل إستراتجية بديلة. فمن الواضح –في رأيي- أنّ 9 أو 10من العمل يوميا كافية لضمان راحتنا المادية. إذاك يمكننا تخصيص الوقت الكافي للتفرغ للانشغالات الثقافية. والجدير بالملاحظة هنا أنه لا يمكننا اعتبار 35 ساعة من العمل كحجم زمني نهائي فيما يخص خفض وقت العمل إذا كان غرضُ شكل النظام الرأسمالي الذي نعرفه حاليا هو الحفاظ على وجوده ليس إلا. فأثناء الإضراب الكبير المتعلق بالانتقال إلى 35 ساعة من العمل في ألمانيا الذي دافعتُ عنه أمام الجمهور، تحدني منظّر الكاثوليكية الاجتماعية أوشفلد نيل بروينيغ Oswald Nell Bruning قائلا: "يا صديقي العزيز، أنت تدافع عن 35 ساعة من العمل أسبوعيا، ولكنني اعتقد أنّ مدة 9 ساعات كافية لتلبية حاجات الجميع ! ". ليس من شك أننا إذا أردنا البقاء ضمن النظام الحالي يجب أن نستمر في خفض جماعي لوقت العمل حتى نتجنب أن يغذي قطاع صناعي أو تجاري بشكل ضيق المجتمع كله بكيفية لا معنى لها. لماذا يتم تشغيل جدٍ يبلغ 65 سنة لضمان التوازن المالي لصناديق التقاعد في حين أنّ ابنته التي تبلغ 40 سنة تعاني البطالة. أما حفيده الذي بلغ 19 سنة لم يجد إلى حد الساعة مركزا للتعلم ؟ فلماذا نلزم هذا الجد على احتكار سبع سنوات من العمل الإضافي وحرمان جيل الشباب ؟ إنّ هذا النظام غير معقول ولا إنساني حينما نفكر في الجانب المتعلق بالكرامة والاحترام. اعتقد أنه يجب تحديد وتوزيع سوق العمل على كل المجتمع حتى نتجنب تحكم البطالة على المستوى الجماهيري في وضع جميع الناس من خلال فرض الاستغلال والعبودية الطوعية على من يملك منصب دائم، وذلك لأنّ الخوف من التسريح من العمل هي الوجه المكمل لهذا الوضع المحتوم. وهذا ما سيؤدي –بطبيعة الحال- إلى ارتفاع نسبة الأمراض المهنية الناتجة عن الخوف والاستغلال الذاتي للأجراء. والحقُ أنّ هناك العديد من الأمراض المرتبطة بالعمل وتضاعف حالات الانهيار العصبي بل ومن الانتحار أيضا. لقد تضاعف في ألمانيا مثلا عدد المرضى الذين استفادوا من العلاج الاجتماعي والطبعقلي (المتعلق بطب الأمراض العقلية والنفسية) إلى عشر مرات في السنوات الأخيرة. لقد تضاعفت الأمراض النفسية في الوقت الذي انخفضت فيه نسبة الأمراض البدنية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق