أعلان الهيدر

الأربعاء، 18 ديسمبر 2019

الرئيسية ميشيل هنري:نحو تأسيس فنومينولوجي جديد للجماليات المعاصرة (ج2)

ميشيل هنري:نحو تأسيس فنومينولوجي جديد للجماليات المعاصرة (ج2)


ميشيل هنري:نحو تأسيس فنومينولوجي جديد للجماليات المعاصرة
الجزء الثاني



  بقلم أ.د/ كمال بومنير 

يعتقد ميشيل هنري Michel Henry أنه من الضروري التمييز بين أسلوب وجود العمل الفني ذاته كبنية صورية قصدية Intensionnelle وأسلوب وجود مادة هذا العمل الفني –أو موضوعه الفيزيائي- بالنظر إلى بعده الواقعي والعيني Concret. وبناء على هذا حري بنا أننؤكد على أنّ التمييز أو الاختلاف الماهوي (أي بالنظر إلى الجانب المتعلق بالبنية وأسلوب الوجود) بين العمل الفني وموضوعه المادي لا يعني -بطبيعة الحال- أنهما موضوعان منفصلان لا رابطة بينهما؛ فالعمل الفني يكون دائما مرتبطا بموضوعه المادي بالنظر إلى الأساس الوجودي الذي يقوم عليه، ولكن هذا العمل من حيث ماهيته يظل دائما مغايرا لهذا الأساس المادي الواقعي؛ فهو يتأسس وجوديا ، ولكن على نحو آخر أو أسلوب مختلف من الوجود (1). وفي هذه الحال، وفق هذا المنظور الفينومنولوجي، فإنّ الرجوع إلى الأشكال والألوان عبر "صورتها الخالصة"، وإدراكها في ذاتها ومن أجل ذاتها يقتضي القيام بعملية اختزال تُستبعد فيها كل الدلالات الموضوعية والنفعية التي تشكل العالم الخارجي أي "الواقع" بالإضافة إلى جملة الدلالات اللغوية التي نعبّر بواسطتها عن هذا العالم (2). والحقُ أنه ما فتئ العديد من الرسّامين التشكليين القيام –بصورة عفوية-بعملية الرد الفينومينولوجي La réduction phénoménologique عند إدموند هوسرل Edmond Husserl بغرض اكتشاف الألوان "الحقيقية"، بحيث وضعوا "بين قوسين" جملة الدلالات الموضوعية "المتعالية" التي تكوّن عالمنا الطبيعي. ومن المعلوم أنّ الاختزال أو الرد بمعناه
الفينومينولوجي عند هوسرل يهدف إلى الكشف عن ما هو معطى بالفعل قصد معرفة ما يظهر لنا من أشياء حسية كالألوان والأشكال الخالصة التي يسعى الرسّامون التشكيليون إلى استعادتها. لا شك أنّ الخطأ الذي وقع فيه الوضعيون Positivistes يتمثل في اعتقادهم بأنّ المعرفة العلمية أي المعرفة الموضوعية للعالم ا هي السبيل الوحيد للوصول إلى الماهية الخفية للأشياء. لكن إذا كانت هذه الماهية "خفية" فعلا، بحيث يتعذر بلوغها بواسطة هذه المعرفة الموضوعية، أي من خلال ما هو "خارجي"، فأين ترتمي القصدية وتوجد الأشياء التي تكسب دلالاتها من خلال اللغة ؟ ولو كانت ماهية الأشياء للحياة اللامرئية التي لا تكف عن اكتساحنا تحت المحك المنيع لشقائها ومرحها، وفي الانتقال من إحداهما إلى الأخرى، فهل هذا الانتقال الذي يمثّل حركة الحياة نفسها وديناميكيتها مثير للعواطف والأحاسيس؟ وحتى ولو وجدت الألوان والأشكال في ماهية هذه الحياة ماهيتها الخاصة، أو كانت في الأصل مجرد انطباعات وقوى، أو مجرد انفعالات وحيوية، أمكننا القول بأنه أمام اللوحات الأخيرة التي رسمها فاسيلي كاندنسكي Wassily Kandinsky، يمكننا أن نجد أشكالا مرسومة وألق الألوان وفق قوانين لا نجد لها نموذجا مرئيا، بحيث لم يعد الأصل والأساس هو النظرُ مادام لم يعد من الممكن تحقيق النظر، ولكن ومع ذلك، نستطيع الإحساس به. فحينما ننظر ينكشف لنا حقا شيءٌ آخر. والحالُ أنّ هذا الانهيار الداخلي المثير للأحاسيس الذي يدفعنا إلى الشعور بحياتنا الخاصة بشدة وعنف، بحيث تكون لدينا انطباعات لم نشعر بها من قبل، وإلى تلك الحياة السامية والعظيمة المتعلقة بالعمل الفني. والحقُ أنّ هذه الانطباعات الجديدة متعلقة بحق بتلك الألوان والأشكال التي رسمها فاسيلي كاندنسكي(3). ولهذا يعتقد ميشيل هنري أنّ عبقرية فاسيلي كاندنسكي تميزه فعلا عن كل الرسّامين الذين سبقهم فيما يخص مسألة الرسم التجريدي. إنّ الأمر يتعلق هنا تحديدا بمفهوم التجريد الذي يستعمله ميشيل هنري استعمالا خاصا متميزا، قد يخرج عن المعنى السائد. لذلك يعتقد أنّنا قد نعثر على أعمال فنية تشخيصية تكتسي في الوقت نفسه طابعا تجريديا. والحال أنّ "كل اللوحات الفنية (وخاصة ذات المستوى العالي) هي من دون شك لوحات تجريدية"(4). وعلى العكس من ذلك، قد نجد أعمالا فنية اعتبرت تجريدية ولكنها ليست كذلك. منها على وجه الخصوص هنا التجريد الفني لدى المدرسة التكعيبية Le cubisme أو لدى تجريدية بييت ماندريان Piet Mondrian 1872-1944، وكازمير مالفيتش Kasimir Malevitch 1878-1935. لقد كتب ميشيل هنري بهذا الصدد: "إنّ قابلية رؤية المرئي هي التي تنعطي أمامنا، بقدر ما تستطيع، هذه البحوث "المجردة" التي لا تصل أكثرها صرامة عبر مسارها إلا إلى فراغ هذا الوسط الخالص"(5). هذا، ويُعتبر كاندنسكي أكثر من غيره من الرسّامين من عبّر بطريقة راديكالية عن استبعاد الموضوع الخارجي ورفض التشخيص الذي يرد فن الرسم إلى "عناصره" الخاصة [..] هذه هي الأشكال والألوان الخالصة والعناصر الرسمية التي وصلت إلى أعلى درجة من التجريد بحيث يمكن مشاهدتها في آخر لوحات واسيلي كاندنسكي الباريسية. ولكن ماذا نشاهد عبر هذه اللوحات؟ وكيف يمكن أن يكون لها معنى بالنسبة إلينا ؟ والحقُ يقال أنّ هنا بالذات تكمن عبقرية كاندنسكي التي تميزه فعلا عن كل الرسّامين والفلاسفة الذين سبقهم فيما يخص مسألة التجريد (6).
وغنيٌ عن البيان أنّ الفنون تتميز بالوسائط الخاصة التي تستعملها، ويمكن أن نخص بالذكر هنا: الألوان، الأشكال، الكلمات، الأصوات، الحركات، الخ. ولكن ومع ذلك، لا تكتسي هذه الاختلافات –بحسب ميشيل هنري- أهمية كبيرة لأنها لا تتعلق إلا بمظهرها "الخارجي". أما من الناحية "الداخلية" فكلها تمتلك واقعا ذاتيا Une réalité subjective، بحيث يمكن أن تتحقق تشابها وانسجاما ما(7).
يمكن القول عموما إنّ الوسائل التي يستعملها كل فن من الفنون، حينما ننظر إلى ذلك من الناحية الخارجية، متباينة تماما، ولكن حينما ننظر إليها من الناحية الداخلية فهي من دون شك متشابهة. هذا وتجدر الإشارة إلى أنّ الواقع اللامرئي La réalité invisible الذي يكشف عنها الفن ليست ولا يمكن أن تنعطي للرائي كشيء من الأشياء التي ندركها أمامنا. على سبيل المثال إنّ ما يمكن رؤيته بحق حينما نكون أمام لوحة فنية هي الألوان والأشكال والصباغ. أما عندما تكتسي اللوحة الفنية طابعا تشخيصيا Figuratif فإننا في هذه الحالة نرى أشياء وكائنات. ولكن ومع ذلك فإنّ الحياة La vie التي لا يمكن عرضها عبر اللوحة الفنية، لا يمكن أن تُرى على اللوحة مثلما تُرى الألوان والأصباغ، الخ. والحقُ أنّ الحياة ليست خارجة عنا بل هي موجودة فينا، لذلك فإنّ القول بأنّ " الفن تمثّل للحياة"(8) تبقى، والحقُ يقال، غامضة. ولرفع هذا الغموض يجب القول إنّ الفن هو استخدام للحياة كما تشير إلى ذلك الباحثة كارول تالون هوغون(9) Carole Talon Hugon. غير أنّ الحياة في نظر ميشيل هنري تتحدد من خلال ما نشعر به بواسطة التجربة الجمالية حينما نكون أمام عمل فني، كاللوحة التي ينجزها الرسّام، ومن دون هذه التجربة الجمالية تبقى اللوحة صامتة ومختزلة في الشيء الذي تظهر به ماديا لا غير.
والحالُ أنّ هذه التجربة، من حيث أنها تعبّر عن الحياة، هي وحدها ما يسمح حقا بالكشف عن معنى ودلالة العمل الفني. وبذلك فإنّ الحياة ليست مجرد موضوع الفن، من حيث أنّ هذا الأخير يتحدث في آخر المطاف عن "مضمونه" بل بالأحرى إنّ الحياة متضمنة وموجودة في الذات المبدعة وفي الذات المتلقية للعمل الفني أيضا(10). والواقع أننا حينما نشاهد لوحات فنية لرسّامين من أمثال فاسيلي كاندنسكي فإننا ندرك – بحسب ميشيل هنري- كيف أنّ هدف ما رسمه هو أن يجعلنا نشعر بما نحن عليه، وبالحياة في خضم دوافعها وقلقها وألمها ومرحها. أما جوهر الألوان والأشكال في هذه اللوحات فهي شذرات من هذه الحياة وحيويتها المتوهجة. وعلى هذا النحو نستطيع القول بأنّها تُظهر للمشاهد أو المتلقي ماهية الرسم كله بل والفن كله لأنها تكشف عن موضوعها الحقيقي المتمثل –كما أشرنا إلى ذلك سابقا- في سر الحياة، ولأنها تحدّد بغير لبس وسائل هذا الكشف. إنّ هذه الألوان الخالصة والأشكال الخالصة المُعاشة في واقع الذاتية الخالصة تنتمي هي نفسها إلى الحياة(11).

الهوامش:

(1) سعيد توفيق، الخبرة الجمالية. دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية. القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، 2015، ص 330.
Michel Henry, De l’art et du politique, Presses universitaires de France, 2004, p 227 (2)

Michel Henry, De l’art et du politique, Presses universitaires de France, 2004, p 228. (3)

Michel Henry, Voir l’invisible. Sur Kandinsky, p 13. (4)
Ibid., p 30. (5)
Michel Henry, De l’art et du politique, Presses universitaires de France, 2004, p 225. (6)
Carole Talon Hugon, « L’esthétique Henryenne est elle phénoménologique ? » p 19. (7)
Michel Henry, La barbarie, p 66. (8)
Carole Talon Hugon, « L’esthétique Henryenne est elle phénoménologique ? » p 20. (9)
Carole Talon Hugon, « L’esthétique Henryenne est elle phénoménologique ? » p 21. (10)
Michel Henry, De l’art et du politique, Presses universitaires de France, 2004, p 226. (11)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.