بول سيزان وغوستاف كوربيه: الحقيقة في فن الرسم
تأليف: جان لوك ماريون
ترجمة وتقديم: كمال بومنير
هذه الترجمة مهداة لمدير مركز البحث في الأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية الدكتور جيلالي المستاري..
"بول سيزان وغوستاف كوربيه: الحقيقة في فن الرسم"
جان لوك ماريون Jean-Luc Marion فيلسوف فرنسي معاصر، وُلد عام 1946. يُعتبر أحد أقطاب الفلسفة الفينومنولوجية في فرنسا إلى جانب كل من بول ريكور وميشيل هنري وإيمانويل ليفيناس وهنري مالدينيه. انصبت اهتماماته على تجذير الفينومينولوجيا واللاهوت المسيحي والمسائل الايتيقية، وأخيرا على قضايا الفن والجماليات. من أهم مؤلفاته : "حول الأنطولوجيا الرمادية لديكارت" 1975، "المعبود والمسافة. خمس دراسات" 1977، "حول اللاهوت الأبيض لديكارت" 1981، "إله بدون كينونة" 1982، "حول الموشور الميتافزيقي لديكارت" 1986، "الاختزال والعطاء: دراسات حول هوسرل وهيدغر والفينومنولوجيا" 1989، "مسائل ديكارتية" 1991، "الظاهرة الإيروسية" 2003. أما الأعمال التي تضمنت آراءه الفنية والجمالية، وخاصة في مجال فن الرسم يمكن أن نذكر على وجه التحديد كتابه بعنوان "كوربيه" المنشور في 2014.
النص:
من المعلوم أنّ الرسم لا ينتظم في الحقيقة فقط بل إنّ الحقيقة نفسها قد لا تتجلي إلا عبر فن الرسم. وإنه مهمٌ في هذا الشأن أن نلاحظ أنّ الرسّام لا "يخلق" المرئي وإنما يسجل الأشياء غير المرئية التي طالما تبقى غير منتظرة ومرئية من قبل. والحقُ أنّ الرسّام شاهدٌ على ما يظهر من تلقاء ذاته أكثر من كونه صانعا للمرئي الذي يتم استهلاكه. وبذلك فهو يسمح بظهور المرئي بشكل مفارق. ومهما يكن من أمر فإنّ المرئي يتشكل من دون تدخل الإنسان. وبيانُ ذلك أنه إذا تجلت الظاهرة من تلقاء ذاتها (بغض النظر عن كل تشكل)، وفي حالة ما إذا قدمت اللوحة الفنية حقيقة أكثر وضوحا عن هذه الظاهرة ذاتها (عبر إشباع محتواها الفكري) كان من الضروري أن تحقّق اللوحة الشيء نفسه من دون تدخل شيء آخر خارج عنها. الأمر اللافت بلا شك هو اختفاء أو انسحاب نهائي ﻟ "الذات" وخاصة "ذات" أو "أنا" الرسّام بل والمُشاهِد أيضا. إنّ انفراد الشيء بذاته هو الطابع النهائي للرسم كما أشار إلى ذلك غوستاف كوربيه Gustave Courbet وبول سيزان Paul Cézanne . أما علامات هذا التحقّق فهي من دون شك كثيرة، غير أنه لا يمكننا أن نذكر سوى البعض منها. ولعلّنا نذكّر عند هذه النقطة بأنه ليس من قبيل الصدفة أن يكون هذان الرسّامان أول من عاد إلى رسم لوحات تُظهر ما يُسمى ﺒ "الطبيعة الصامتة" Nature morte بعدما تخلى عنها العديد من الرسّامين بحجة أنها تندرج فيما يُسمى ﺒ "الفنون الدنيا". فمن المعلوم أنهما كانا أوّل من رسم هذه اللوحات (باستثناء شاردن Chardin (مما يفضي إلى القول أنهما تمكنا من تحويل الطبيعة، التي اعتُبرت صامتة، إلى طبيعة حيّة. هذا وترجع لأول تفاح رُسم إلى سلسلة من اللوحات التي تم الشروع في رسمها في سانت بيلاجيه Sainte-Pélagie منذ عام 1871 ثم بعد ذلك في نوييه Neuilly.
وليس بغير ذي أهميةٍ أن نلاحظ أنّ الأوضاع التي كانت سائدة في تلك الفترة قد حدّدت إلى حد كبير شروط إعادة رسم هذه اللوحات. ولإيضاح هذه النقطة يمكننا أن نشير إلى أنه عندما مُنع غوستاف كوربيه لمدة طويلة، بسبب نقص الوسائل، كان قد استأنف العمل مباشرة ولكن وفق أسلوب ما يُسمى ﺒ "الفن الفقير" Arte povera ومن دون طبيعة حية أخرى ما عدا بعض التفاح الذابل. هذا وإذا أخذنا على سبيل المثال اللوحة الموسومة ﺒ" تفاح أحمر" فإننا نلاحظ من دون شك أنها تفرض حضورها الكبير؛ فعلى الحفتين نلاحظ وجود تفاحتين كبيرتين بلون أحمر تقريبا، تحيطان بتفاحتين صغيرتين تميلان إلى لون داكن، وبالنظر إلى الخلفية نلاحظ وجود تباين في الحجم والوضعية وخاصة في لون هاتين الدائرتين اللتين منهما قوة والخلفية ذات لون أخضر مائل إلى الأسود مع وجود تباين مدعم ببياض ظاهر على سطح اللوحة. والحقُ أنّ التفاحتين الحمراوتين تظهران ضمن ظلال يصعب التخلص منها.
وعلى العكس من ذلك، إذا بلغت أو تجاوزت لوحة "التفاح" لسيزان نفس انجاز الحضور-وكأنّ كل تفاحة اتسعت نحو شكلها المكتمل انطلاقا من النقطة التي يشع منها الضوء- فإنها لن تثير أي إحساس إنساني تقريبا فيما يخص بلوغ مطلب الحرية الذي يثيرنا حقا في لوحات غوستاف كوربيه لأنّ عند هذا الأخير، وفي اللحظة التي يفرض الشيء نفسه بشكل مستقل عن "ذات" أو "أنا" الرسّام (ونظرة المُشاهد أيضا)، فإنه مع ذلك يتعرف على نوع من الشغف أو الانفعال الإنساني الذي يصبو إلى تحقيق الحرية. وكأن الأشياء، وعلى الرغم أنها قد تبدو لنا وكأنها تظهر من تلقاء نفسها بدون تدخل أو تصويب الإنسان، يمكن أن تركز على الحياة المعيشة التي يشعر بها الناس، والتي تتجلى مباشرة بدون تمحيص ذاتية غير جوهرية ولا تمثّل "للفكرة"، وبكلمة واحدة كأشياء واقعية وموجودة بالفعل.
Jean-Luc Marion, Courbet. Ou la peinture à l’œil. Paris, éditions Flammarion, 2014, pp 197-198.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق