الفنون التشكيلية الجزائرية، من 1962 إلى يومنا هذا
نظرة إجمالية(ج3)
تأليف: مصطفى بوعمامة
ترجمة: كمال بومنير

يُعتبر محمد خدة (1930-1991) أحد أبرز الفنانين والمثقفين الجزائريين
المعاصرين. تأثرت حياته وأعماله كلها بالثقافة الوطنية التي كانت سائدة قبل
وبعد الاستقلال. كان فنّانا عصاميا، ومن عائلة متواضعة. هذا، ومن الملاحظ
أنّ مساره الفني قد ارتبط ارتباطا وثيقا بمصادفات مصير بلاده، وكان مندمجا
مع ما حدث فيه بعد ذلك من سراء وضراء. ومعلومٌ أنّ محمد خدة كان قد ارتاد
المدرسة القرآنية منذ طفولته المبكرة، حيث تعلّم الأبجدية العربية ومبادئ
اللغة الفصحى. وقد أعجب حينئذ كثيرا بالأصوات الساحرة المنبعثة من القراءة
الجماعية للأطفال للقرآن الكريم، وهذا على الرغم من عدم فهمهم لمعانيه
ومقاصده. ولا شك أنّ هؤلاء الأطفال كانوا مسحورين بموسيقى هذا النص وإيقاعه
الموزون. ولطالما كان محمد خدة يتذكر كيف كان يطلي لوحته الخشبية بالطين،
التي كان يكتب عليها الآيات القرآنية التي كان يمليها عليها الطالب (معلّم
القرآن). وعلى غرار صانع الفخّار الذي يعجن الطين لإعطائه الشكل المرغوب
فيه، كان خدة يستخدمه أيضا قصد إبداع الأشكال لأنه كان يرسم في الوقت الذي
كان يكتب أيضا. وما من شك أنّه كان يدرك جيدا بأنّ الحرف العربي يتضمن
–زيادة على وظيفته الرمزية- جمالا تصويريا أصيلا. ومن الملاحظ أنّه كانت
تنبعث من الحبر "الصماغ" المصنوع بواسطة الزغب المحروق والمبلّل بالماء،
رائحة متميّزة، سرعان ما أصبحت مألوفة لديه. أما المواد المستعملة فهي خشب
اللوح وقصب القلم والزغب، وهو عنصر عضوي معدّن بالنار والماء، وقد كانت
مستخلصة كلها من الأرض التي طالما مجدها وأشاد بها في أعماله الفنية
اللاحقة، وارتبط بها طول حياته. والحقُ أنّ فرشات محمد خدة كانت تخط لوحاته
كسكة المحراث التي تقلب التراب بغرض تخصيبه. لذلك ليس غريبا أن يكون هذا
الفنّان كالحرّاث المتميز الذي يقيم علاقة طبيعية بين المادة وسمو العقل أو
رفعة الروح. لقد أدرك محمد خدة -حينما كان يدرس في المدرسة
القرآنية-أهمية القوة التشكيلية للرمز حينما تعامل مع شكل ومضمون الإبداع
الفني بلا كلل ولا ملل. وحينما بلغ أربعة عشر سنة من العمر بدأ يشتغل في
إحدى المطبعات، إذ ذاك تعرّف لأول مرة على التعبير التشكيلي وتأثر بالأسلوب
التشخيصي، حيث رسم مناظر طبيعية في جبال الظهرة. ولكن ومع ذلك لم يكن
مقتنعا بهذا الأسلوب الفني. لقد شك في وقت مبكر في المعنى الخفي والجمال
الباطني للخط العربي. والواقع أنه تخلى عن التشخيص منذ عام 1954. هذا،
وتجدر الإشارة إلى أنّ الخط العربي والأسلوب الفني العربي-البربري-الإسلامي
كان في الأصل فنا دينيا. وربما يلزمنا أن نشير هنا أيضا إلى القول
المأثور: "إنّ الله جميل ويحب الجمال". وهنا يمكن للمرء أن يتساءل: كيف
يمكن تمثيل ما لا يُدرك أي الجمال الكامل أو المطلق؟ من الواضح أنّ التشخيص
لا يدعي ذلك، ولكن في مقابل ذلك، لا يسمح التجريد بالكشف عن الواقع الخفي
عن نظرة الإنسان فقط لأنّ هذا الواقع مفارق دائما لرؤية البشر. بيد أننا لا
ننكر -بطبيعة الحال- أن تكون عدم قدرة التجريد على إدراك ماهية الأشياء
التي تجعلها مثيرة وجذابة في نظر الفنّانين. والحقُ أنّ ذلك قد يفتح مجالا
غير محدود لإمكانية ممارسة الإبداع الفني. والذي لا شك فيه أنّ التجريد لا
يخضع إلا لقدرات الفنّان التخيلية. كما أنّ التشخيص يستلهم نماذج موجودة
مسبقا. والحقُ أنّ التشخيص يتسم بطابع حر. وبالفعل فقد تحرّر محمد خدة من
كل تبعية يمكن أن تحرّر المشاهد نفسه. ضمن هذا السياق يعتقد محمد خدة أنّ
المشاهد يصبح مشاهدا ومتأملا. لذلك كان العمل الفني في حاجة إليه، ولا يمكن
أن يوجد إلا من خلاله لأنه مجرد شيء يفتقد إلى الوعي بالذات. انطلاقا من
هذا، بإمكاننا القول إنّ المشاهد يصبح الأنا الآخر للعمل الفني، والذي
بدوره يتأمل ذاته. ومن الآن فصاعدا سيعرف أنه موجود ويملك هوية.
Mustapha Bouamama, Les arts plastiques algériens, de 1962 à aujourd’hui, Vue synoptique, p 12.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق