ليوناردو كريمونيني: الرسم التشكيلي بين التشخيص والتجريد
تأليف: لويس ألتوسر
ترجمة وتقديم: كمال بومنير

النص:
ما من شك أنّ "النظر" إلى أعمال الرسّام التشكيلي الايطالي ليوناردو كريمونيني Leonardo Cremonini والحديث عن ما يرينا إياه في لوحاته الفنية بشكل خاص يقتضي أولا وقبل كل شيء التخلي عن مقولات جمالية الاستهلاك. وفي هذه الحالة، أرى أنه من الضروري وجود نظرة أخرى مغايرة تماما فيما يخص الاشتهاء أو النفور من "الأشياء". والحقُ أنّ قوة هذا الرسّام التشخيصي Figuratif تكمن من دون شك في ما لا "يرسمه" من "موضوعات" ( الأغنام المشتتة، الجثث المعذبة، هذه الحجارة، هذه النباتات، هذه الأريكة 1900)، ولا "أماكن" (البحر، منظر نافذة مفتوحة، هذه الشرفة المعلقة في السماء، هذه الغرف التي تضم دواليب وأسرة مبرنقة، مقصورة في قطار حديدي،) ولا "أوقات" أو "لحظات" (في الصباح الباكر، في وضح النهار، حيث تلعب فتيات بالحجلة في فناء تحت شمس حارقة). وربما كان في وسعنا القول إنّ كريمونيني كان –والحقُ يقال-"يرسم" علاقات تناول فيها أشياء وأماكن ومواقيت. لذلك علينا أن نقّر إذن بأنه "رسّام التجريد" Peintre de l’abstraction لا مجرد رسّام تجريدي "يرسم" ممكنا غائبا في شكل أو مادة جديدة، وإنما رسّام "المجرد" الواقعي. وبالفعل فإنّ ما "يرسمه" من علاقات واقعية (وباعتبارها علاقات فهي من دون شك "مجردة") تكون بين "الناس" و"أشيائهم"، أو على الأصح بين "الأشياء" و"أناسها". وليس من شك أنّ "رؤية" هذه العلاقات في لوحات كريمونيني هو في الوقت نفسه ولوج في علاقات جديدة بين "الفنّان" و"عمله الفني"، أو بالأحرى بين العمل الفني ذاته والفنّان. هذا وتجدر الإشارة إلى أنّ النقد الفني الحديث غالبا ما فكر في هذه العلاقات ضمن لغز ذاتية الرسّام الذي رسّخ"مشروعه الخلاّق" في المادية المثلى "لإبداعه".هذا، وتجدر الإشارة إلى أنّ جمالية الاستهلاك وجمالية الإبداع في الأصل جمالية واحدة، لأنهما يقومان على مقولات إيديولوجية قاعدية تتمثل في:
1. مقولة الذات المبدعة أو المستهلكة (أي الذات التي تنتج "عملا فنيا" أو حكما جماليا)، والحاملة أيضا لجملة من الصفات الذاتية (الحرية، المشروع، الفعل الإبداعي، القدرة على إصدار أحكام، الحاجة الجمالية، الخ).
2. مقولة الموضوع ( أي تلك"الموضوعات" الممثلة والمشخصة في العمل الفني كموضوع منتوج أو مستهلك). وتبعا لذلك يمكننا القول بأنّ ذاتية الإبداع ليست سوى انعكاس Reflet (وهذا الانعكاس يتمثل على وجه التحديد في الايدولوجيا الجمالية) الخاصة بذاتية المستهلك. وربما كان في وسعنا أن نشير هنا إلى أنّ "العمل الفني" ليس سوى ظاهرة ذاتية الفنّان نفسه، سواء أكانت نفسية أو جمالية-متعالية Esthétique-transcendantale.
هذا، وقد أوضح لنا كريمونيني كيف أنّ "لغز" "الحياة الباطنية" للرسّام و"مشروعه الإبداعي" ليس سوى عمله الفني نفسه، وأنّ علاقاته بهذا العمل ليست سوى "علاقات" "يرسمها" بكيفية تظهر من خلالها علاقات الأشياء بالناس. من جهة أخرى، يدفعنا كريمونيني إلى رؤية، ليس فقط علاقة الرسّام بعمله وإبداعه التي تفتقر إلى الوجود "الجمالي" بل وأيضا علاقة "العمل الفني" نفسه مع الرسّام، اللذان يشكلان –بطبيعة الحال- علاقة هذا العمل معنا.
علينا أن نقّر إذن أنّ "التاريخ" الشخصي للوحات كريمونيني كلها ليس سوى تفسير للضرورة التالية: دحض فكرة الذاتية الخالصة في عملية إنتاج العمل الفني وانعكاس ذاتية الاستهلاك. وليس من شك أنّ أهمية هذا التاريخ لا ترجع إلى كونه بدأ من هذا "الموضوع" وتواصل عبر موضوع آخر، وإنما ترجع إلى تلك "المشكلات" التي تمت مواجهتها، وما التاريخ هنا سوى ذلك الموقف والتحويل والحل التدريجي. وبالفعل فقد "بدأ" كريمونيني من الجانب "الجيولوجي" Géologique. وتبعا لذلك، فإنّ الهياكل أو الدعامات والتمفصلات المرتّبة أو المحكومة بالجاذبية والثقل والتاريخ للجسم الموجود وغير فعّال لجزيرة ما، غارق في نسيان عميق للصخور، على شاطئ البحر الصافي، وفي أفق بدون مادة. والحالُ أنّ ذلك كان من قبلُ مخالفا تماما عن رسّام "الأشياء" والمناظر الطبيعية. وليس ذلك فحسب، فقد واصل كريمونيني بما يسمى النباتي Vegetal، النمو المتفجر لبُصيلة، الصرخة القوية للسيقان الصامتة، التدفق الثاقب للزهرة. والحقُ أنّ كريمونيني لم "يرسم" أبدا سوى غيابات في هذا الحضور؛ فقد قام ﺒ "تشخيص" الإيقاع والرشق وفرقعات الزمن في نباتات آنية خالدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق