الألوان والأشكال وماهية الحياة
تأليف: ميشيل هنري ترجمة وتقديم: كمال بومنير

النص:
ليس من شك أنّ الخطأ الذي وقعنا فيه نحن "المحدثون" المنتمون إلى عالم المعرفة العلمية الموضوعية هو ذلك الاعتقاد الجازم بأنّ هذا النمط المعرفي هو النمط الوحيد الذي نملكه، بل وهو أيضا السبيل الوحيد للوصول إلى الماهية الخفية الثاوية وراء الأشياء. لكن إذا كانت هذه الماهية "خفية" فعلا، بحيث يتعذر بلوغها بواسطة هذه المعرفة في ضوء العالم والموضوعية، ومن خلال ما هو "خارجي" عنا، فإلى أين ستتجه القصدية Intentionnalité بغية إيجاد الأشياء التي ستكتسب دلالاتها بواسطة اللغة؟ لو كانت ماهية الأشياء الخاصة بالحياة اللامرئية Invisible تظهر لنا عبر شقائها ومرحها، وعبر انتقالها من إحداهما إلى الأخرى، فهل- في هذه الحالة- سيكون هذا الانتقال الذي يمثّل حركة الحياة نفسها وديناميكيتها مثيرا حقا للعواطف والأحاسيس؟ الحالُ أنه حتى ولو وجدت الألوان والأشكال في هذه الحياة ماهيتها الخاصة، أو كانت مجرد انطباعات وقوى، أو مجرد انفعالات حيوية، أمكننا القول بأنه أمام اللوحات الفنية الأخيرة التي رسمها كاندنسكي Kandinsky ، سندرك من خلال تلك "الإنشاءات" أو "التكوينات" الغامضة التي ترتبط وفق منظوره بأشكال مرسومة وألق الألوان عبر قوانين لا نجد لها نموذجا مرئيا، بحيث لم يعد الأصل والأساس هو النظرُ مادام لم يعد من الممكن تحقيق النظر، ولكن ومع ذلك، نستطيع الإحساس به، بحيث أنه مجرد ما ننظر إليه سينكشف لنا شيء آخر. ليس من شك أنّ هذا الانهيار الداخلي المثير للأحاسيس هو الذي يدفعنا إلى الشعور بحياتنا الخاصة بشدة وعنف، بحيث تكون لدينا انطباعات لم نشعر بها من قبل وبتلك الحياة السامية والعظيمة المتعلقة بالعمل الفني. وليس من شك أنّ هذه الانطباعات الجديدة متعلقة في الأصل بتلك الألوان والأشكال التي رسمها كاندنسكي، وبالتالي خلّصها من كل علاقة بوضوح العالم ومعقولية المعنى، فتحولت إلى مجرد "رنين" و"نغم" و"اهتزاز روحي"، ومن ثمّ، وجب التخلص حتما من انعكاساتنا الإنسانية المنتمية إلى عالم المعرفة العلمية والكف عن الاعتقاد بأنّ اللغز مؤقت وأنّ مهمة المعرفة هو فكه تدريجيا إثر تقدمه. وبهذا، يتبيّن أنّ الفن يحتفظ بذلك السر لأنّ مهمته الأساسية هي أن يقودنا نحوه. وليس بخافٍ أنّ ما هو جدير بالاهتمام هنا حقا هو ماهية حياتنا اللامرئية. ولما كان الرسم التجريدي الذي ابتكره كاندنسكي قد حقق وعيا بهذا الوضع والمهمة التي استأثر بها الفنُ فإنّ هذا متعلقٌ في حقيقة الأمر بكل أشكال الفن وبفن الرسم قعلى وجه الخصوص. لذلك نستطيع القول بأنّ فن الرسم كله مجرّد، بل وعلاوة على ذلك فإنّ هذا الفن يجمع الألوان والأشكال، غير أنّ غرضه ليس متوقفا على المرئي، وهذا حتى عندما يضطر إلى تمثّله بكيفية ساذجة، ولا حتى جوهره. وبناء على هذا، نستطيع القول بأنّ هدف فن الرسم هو أن يجعلنا نشعر بما نحن عليه، وبالحياة في خضم دوافعها وقلقها وألمها ومرحها. أما جوهرها -أي جوهر الألوان والأشكال- فهي بطبيعة الحال شذراتٌ من هذه الحياة وحيويتها المتوهجة. وعلى هذا النحو نستطيع القول بأنّ لوحات كاندنسكي الباريسية الأخيرة تُظهر للمشاهد ماهية الرسم كله بل والفن برمته لأنها تكشف عن موضوعها الحقيقي المتمثل –كما أشرنا إلى ذلك سابقا- في سر الحياة لأنها تحدّد بغير لبس وسائل هذا الكشف. فمعلوم أنّ هذه الألوان الخالصة والأشكال الخالصة المُعاشة في واقع الذاتية الخالصة تنتمي هي نفسها إلى الحياة. ومعلومٌ كذلك أنّ الألوان والأشكال ليست فقط عناصر داخل اللوحة الفنية وإنما هي أيضا عناصر الكون الذي نعيش فيه. والحقُ أنه لو كانت ماهية كل شكل وكل لون مزدوجة من الناحيتين الخارجية والداخلية معا ألا يعتبر هذا الشرط في هذه الحالة متعلقا بالألوان والأشكال الطبيعية؟ ألا يجب على هذه الأخيرة -بالإضافة إلى ما تظهره بالنسبة إلى المشاهد- الغوص في حياتنا الداخلية الغامضة بحيث يكون لها –ككل عنصر رسمي- "رنينها الداخلي"؟ في هذه الحالة سيكون وضع الكون شبيها بالرسم التجريدي وسيكون موقعه داخلنا حيث إنّ اللون مجرد انطباع حينما نشاهد أشكالا مرسومة محيّرة ابتكرها بكثرة كاندنسكي، وفي هذه الحالة لن يكون العالم ما يُراد لنا أن نتصوره أي العالم الخارجي من حيث هو مجرد موضوعية خالصة وخالية من بُعد داخلي ومجرد جزيئات مادية من "الأشياء" المختزلة في امتدادها الهندسي التي لا تشعر بشيء ما. والحقُ أنّ هذا العالم، أي عالم المعرفة العلمية المليء بالمُثل المجردة، قائم في عالم الحياة أي العالم المحسوس، هو عالم البرد والجوع والقلق والجمال والألوان والأشكال.وهنا تكمن –بطبيعة الحال-جذور هذا العالم فينا، فهو على حد تعبير جميل لكاندنسكي "مليء بالصدى، إنه يشكل عالما من كائنات تمارس فعلا روحيا، إنّ المادة الميتة هي روح حية". إننا -والحقُ يقال- قد نصاب بالذهول لأن فن الرسم التجريدي هو محصلة صراع طويل وتأمل كبير. لقد وقف هذا الفن بالضد من التشخيص Figuration . غير أنّ هذا ليس فنا خاصا بالنزعة الطبيعية أو الواقعية في كل أشكالها التي كان يجب التغلب عليها أو ذلك الاعتقاد الألفي القائل بأنّ "الواقعي" هو ما نجده أمامنا، أي ما يسميه الفلاسفة المحدثون "الموضوع" ويعنون بذلك ما هو "موجود أمامنا"، ولكن ومع ذلك، ومن خلال إزاحة العالم استطاع الرسم التجريدي فرض غايته الجديدة والمفارقة المتمثلة في: اللامرئي. وهكذا، حينما وُضع العالم جانبا وغض من شأنه ضمنيا اكتشفه فن الرسم من جديد ولكن ضمن مستوى جديد من العمق، غير أنّ في هذه المرة لم يعد عالما مختزلا في جملة من الأشياء الخارجية الخالصة وإنما وُجه وجهة أخرى، وبكيفية يكون فيها مؤثرا، بحيث سيتحوّل كل شيء إلى معاناة وابتهاج. إذ ذاك يصبح اللونُ انطباعا يجعلنا نشعر بالمرح والاستبشار أو القلق. وفي هذه الحالة، سنكون أمام عالم حقيقي وطبيعة أصلية وذاتية وحيوية ومثيرة للعواطف حقا، في كون تجري فيه حياتنا ولكن جوهره هي الحياة نفسها: إنه كون حيّ!وعلى هذا النحو يتجلى لنا السر الثاني والأعمق الذي تضمنته الأعمال الفنية الأخيرة لكاندنسكي: "تماهي الرسم التجريدي مع الكون"؛ فأمام الجلال المُلغز للوحاته ينتابنا إحساسٌ وكأننا أمام عالم آخر. إنه –والحقُ يقال- عالم مختلف بالكلية عن العالم الذي ندركه في حياتنا اليومية، وهذا في الوقت الذي لا يثير فينا العالم المألوف أي إحساس أو انفعال مماثل حينما نشاهد لوحات كاندنسكي. حينئذ، لا عجب، أن يتسلى هذا الأخير مرارا وتكرارا في ابتكار سلسلة من العوالم غير موجودة بالفعل، كسلسلة من "العوالم الصغيرة"،سواء أكان ذلك تحت تأثير الهندسة المهيمنة Géométrie dominatrice أو ألق الألوان غير الواقعية. ولكن ومع ذلك فإنّ كل هذه العوالم "مجردة" ولا علاقة لها بعالمنا.
الهوامش:
Michel Henry, De l’art et du politique, Presses universitaires de France, 2004, pp 225-226.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق