أعلان الهيدر

الخميس، 19 ديسمبر 2019

الرئيسية فن الرسم من منظور فان غوغ

فن الرسم من منظور فان غوغ


فن الرسم من منظور فان غوغ

تأليف: جان بول سارتر ترجمة وتقديم: كمال بومنير

جان بول سارتر Jean Paul Sartre فيلسوف وروائي وكاتب مسرحي فرنسي، (1905-1980) يعتبر أحد أقطاب الفلسفة الوجودية في فرنسا، وخاصة بعد صدور كتابه "الوجود والعدم" عام 1943. اهتم بقضايا الفن والأدب، وارتبطت عنده بمفهومه عن الحرية على أساس أن الإنسان قادر على تغيير واقعه في سياق موقف تاريخي محدد، أما العمل الفني فيكتسب قيمته لأن غايته القصوى هي الحرية وليس التعبير عن واقع قائم وتبريره. لذلك كان من واجب الفنان الملتزم أن يتخذ لنفسه موقفا ضد كل أشكال الاستعباد والقهر والظلم والسيطرة. من أهم مؤلفات جان بول سارتر : "الغثيان"، " الذباب"، الأيدي القدرة"، "الوجودية مذهب إنساني"، "ما الأدب؟"، "الكينونة والعدم". أما الكتاب الذي تضمن آراءه الفنية والجمالية، وخاصة في مجال فن الرسم فقد جاء على شكل دراسات عن سير العديد من الرسّامين التشكيليين منهم على وجه الخصوص: روبير لبوجاد وأندري ماسون وفون غوغ. 

النص:

لم يحاول فان غوغ Van Gogh في يوم من الأيام أن يرينا في لوحاته حقلا فيه غربانٌ وأشجارٌ مثمرة، ويبدو أنّ السبب الذي دعاه إلى ذلك ببساطة شديدة هو أنّ هذه الأشياء نفسها ليست مُشخصة ولكن بإمكانها أن تقدم مادة جمالية قد تجسد ذلك الحضور الذي يتصدى ريشة الرسّام: العالم وهو يتغطى بالحقول، العالم المتدفق، النُسغُ والأزهار، عودٌ، الخ. لقد كان على فان غوغ أن يغيّر كل شيء إذا كان يريد أن يكشف لنا عبر لوحاته الفنية أنّ ألطف الأشياء في الطبيعة لا تنفصل تماما عن الرُعب. على هذا الأساس، اتخذ الرسم "التشكيلي" عنده ثلاثة أشكال وهي: أولا، الواقع المرشد الذي تدّعي اللوحة أنها تواجهه. ثانيا، التمثّل La représentation الذي يقدمه الرسّامُ نفسه. ثالثا، الحضور الذي ينحدر عبر التركيب. ليس من شك أننا قد نعتبر هذا الثالوث مزعج، وهو بالفعل مزعج، علما أنّ الواقع المرشد الغامض لا يرشدنا –بطبيعة الحال-إلى أي شيء لأنه يطفو، ولا نستطيع أن نفعل من أجله شيئا ما، اللهم إلا إذا حولناه إلى ما شيء واقعي أو إلى موضوع خيالي. والحقُ أنه قد لا نجد حقلا مميزا يقدم فعلا جمال أو قبح العالم اللهم إذا أعدنا بنائه عن جد، أو بالأحرى، سيقدم لنا الجمال والقبح معا أو منفصلين؛ سيعكس لنا كل شيء ولكن بشكل غير متماسك، وبصورة تقريبية ومتهافتة وغامضة [..]
ومما لا شك فيه أنه ليس للقواعد المتعارف عليها من أهمية في الرسم التشكيلي، ويكفي أن نقتنع أنّ الصورة المقترحة هي في هذا الإطار المرجعي أحسن تمثيل للشيء، والأحسن هنا يعني الشكل الأقوى والأكثر كثافة ودلالة. ومع ذلك، ومنذ القرن الماضي، وأمام كل خيار جديد، أصبحت الصورة تبتعد عن الموضوع المُصوّر، إلى درجة أصبحت فيه المسافة التي تفصل بينهما أكبر، كما أنّ التوتر الداخلي للعمل الفني أصبح أكثر عمقا. والحاصل من هذا كله أنه عندما نستبعد وجود أي تشابه بينهما ولا نعترف بأي تماثل قائم بين الصورة والواقع فإنّ المعنى الناتج عن انهيار "التمثّل" سيظهر من خلال مظهره السلبي، وسيلمع عبر التباينات والنقائص والفجوات والأشياء التقريبية والترددات المقصودة. وبما أنه غير مرئي فإنه –أي المعنى- قد يُبهرنا لأنه يذيب الصور في حضوره غير المصَّور. هذه هي إذن المعاني التي تسكن عالمنا. وفي هذه الحالة ستقضي على التفصيل وتتغذى منه في الآن نفسه. ومن الملاحظ أيضا أنّ كل حائط قد يخفي مدينة البندقية Venise إذا كان وحيدا. والحالُ أنني سأشعر بهذه المدينة من خلال زوال قصورها. وعلى هذا، فمن المؤكد أنّ الفنّان سيقدم لنا في لوحته العناصر المصوّرة لحدسه ولكنه سيلغيها في الحال. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ الحضور، الذي هو الشيء نفسه سيتجسد فعلا. ومع ذلك، فإنّ الأمر هنا مجرد فخ نصبه الفنّان الذي أدخل صورا أخرى، بكيفية تصبح فيه الطبيعةُ شيئا مختلفا تماما عن الشيء المعيّن، ومادة أخرى- ورق، رمل، حجارة- وتلميحات أخرى، وهذا بغرض إبداع وجود جديد. والجدير بالذكر بهذا الصدد هو أنّ الصور التي تنكسر وتتحطم ليست اختيارا مريحا لدى الرسّامين الجدد وإنما هي حدثٌ يدوم باستمرار، أما نتائجه فهي –والحقُ يقال-غير معروفة بعد. وأما بالنسبة إلى هذا الانفجار الدائم فإنه متواصل بشكل متسلسل من لوحة إلى أخرى. ولا يخفى أنّ كل رسّام يراها كمشكلة تخصه ومادته في آن واحد.وإذا كان الأمر كذلك، يجب الحفاظ، بواسطة قوانين يتم اختراعها ومنطق العين، على هذه القابلية للتفتت والسحق Pulvérulence والبحث عن الوحدة المتعددة للتعدد بغية الوصول إلى معنى جديد للوحة الفنية ومعرفة كل تفاصيلها واحتواء تمديداتها وتكثفيها وفواصلها السوداء، وهذه البُقع. ومن ثمّ لن يبقى أي شيء ثانوي ومهمل. ولكن ومع ذلك، يجب أن يكون للعين دافعها القوي حتى تشرع - بدون أن تبحث عن الصورة أو التشابه- في توحيد هذا التبعثر العظيم. وفي هذه الحالة لن نجد إلا تلك الوحدة الخفية للعمل الفني المتضمنة في اللوحة الفنية نفسها. 


الهوامش:

Jean Paul Sartre, Situations, IV, Paris, Gallimard, 1964, pp 373-374

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.