حول جمال الألوان
تأليف: دنيس ديدرو ترجمة تقديم: كمال بومنير

النص:
إذا كان فنُ الرسم هو الذي يضفي الأشكال على الأشياء الموجودة في الطبيعة فإنّ اللون هو –بطبيعة الحال- من سيمنحها الحياة. لا يخفى أنّ العارفين بالفن هم وحدهم المؤهلون لإصدار أحكام على فن الرسم، ولكن حينما يتعلق الأمر باللون فمن حق كل إنسان إبداء رأيه وإصدار أحكام فيما يخص ذلك. غير أنه يجب أن نشير إلى أنه قد نجد عددا كبيرا من الرسّامين التشكيليين الممتازين، ولكن ومع ذلك، ليس لدينا عددا كبيرا من الرسّامين البارعين والحاذقين في استخدام الألوان، وأولئك الذين يعتمدون الألوان في رسوماتهم في المقام الأول؛ وإذا أراد المرءُ أن يتحقق من هذا القول فما عليه سوى الذهاب إلى مرسم فني، ولينظر إلى طريقة عمل الرسّام التشكيلي. فإذا وجد أنّ هذا الأخير قد نسّق جيدا بين الألوان التي استعملها والألوان المعتدلة (بين الفاتح والغامق) في لوحة ألوانه أو أنه لم يخلط هذا النظام كله في مدة قصيرة من العمل، حينئذ فقط بإمكانه أن يقول عن هذا الرسّام أنه فاشل ولا يمكنه الوصول إلى إبداع حقيقي [..]والحقُ أنه ليس من اليسير في شيء أن يعرف الرسّامُ دائما، حينما يضع الألوان على لوحته الفنية، الرسم الذي سيظهر فعلا على هذه اللوحة. وإذا كان الأمر كذلك، فبأي شيء سيقارن هذه الألوان؟ هل سيقارنها بألوان معزولة وبدائية؟ من المؤكد أنه سينظر إليها حيثما شرع في تحضيرها، وبعد ذلك سيستعملها في الموضع المناسب. ولكن كم من مرة أساء الرسّام تقدير ذلك ! وحينما ينتقل هذا الأخير من لوحة الألوان التي بين يديه إلى المشهد الكلي للتركيب أو التكوين يتغير اللون ويُخفف وبالتالي يتغير أثره بالكلية. وفي هذه الحالة، يتردد الرسّام ومن ثمة يعدّل ما يجب تعديله من ألوان. ومن خلال إلقاء نظرة خاطفة على عمله، يمكن أن يتبين لنا كيف أنّ التلوين الذي استعمله قد أصبح مكوّنا من عناصر متنوعة يؤثر في بعضها البعض إلى حد ما، ولكن وفي الوقت نفسه ستفقد انسجامها وتكاملها عاجلا أو آجلا. وعلى العموم، بإمكاننا القول إنّ انسجام تركيب أو تكوين اللوحة يبقى ويدوم حينما يتمكن الرسّام من حسن استعمال ريشته، ولا يكثر من تغيير وتعديل ألوانه، بحيث يستعملها ببساطة وبلا مواربة أو تردّد. ومن الملاحظ أنّ العديد من اللوحات الفنية الحديثة قد فقدت انسجامها وتناسقها في ظرف وقت قصير، وبالمقابل قد نجد لوحات أخرى قديمة قد حافظت على ألَقها وانسجامها وتناسقها بعد مرور مدة زمنية طويلة. ويبدو لي أنّ هذه الميزة بالذات مردها إلى عمل الرسّام لا نتيجة نوعية الألوان. وعلى هذا، يصح أن نقول بأنه لا يوجد في اللوحة الفنية أي شيء يمكن أن يساوي اللون الحقيقي الذي يخاطب الجاهل والعالم معا. ومع ذلك، فإنّ غير المطلع بالقدر الكافي على حقيقة اللوحات الفنيّة سيمّر مرور الكرام أمام لوحة مميّزة ورائعة. أما العينُ فلم تتجاهل في وقت ما الرسّام البارع في استخدام الألوان. غير أنّ ما يجعل هذا الأخير فنانا فذا ومتميزا هو من دون شك المعلّم الذي اقتدى به واتخذه مثالا. لقد قضى التلميذُ مدة طويلة في تقليد لوحات معلمه، ولم ينظر إلى الطبيعة،بل واكتفى بالتعوّد على رؤية الأشياء بعيون الآخرين، إلى درجة أنه لم يعد قادرا على استخدام عيونه في رؤية هذه الأشياء. وهكذا، وبالتدريج، وضع لنفسه قيدا لا يستطيع التخلص منه والتحوّل عنه؛ لقد وضع قيدا في عينه مثلما يوضع القيد في رجل العبد. هذا هو في رأيي مصدر العديد من التلوينات الفاسدة والزائفة. ولمزيد من التوضيح نسوق الأمثلة التالية: من كان تقليده وفق نموذج لغرينييه La Grenée سيكون من دون شك باهرا ومتينا. ومن كان تقليده وفق نموذج لبرانس Le Prince سيميل لا محالة إلى لون مائل إلى الحمرة Rougeâtre. أما من قلّد أو حاكى وفق نموذج غروز Greuze فسيكون بكل تأكيد رماديا مائلا إلى البنفسجي Violâtre. أما من درس نموذج شاردن Chardin فسيكون من دون شك سليما. ومن هنا ذلك التنوع فيما يخص الأحكام التقديرية في الرسم والتلوين، وهذا حتى بين الفنّانين التشكليين أنفسهم. ففي تقدير البعض من الناس أنّ أسلوب بوسان Poussin جاف، والبعض الآخر عن أسلوب شاردان Chardin أنه حقيقي. وسيقول آخرون أيضا عن أسلوب روبنس Rubens أنه مبالغ فيه. أما ليلوبتيان Lilliputien فهو من جهته يضرب بلطف على كتفهم ثم يقول مخاطبا هؤلاء الناس: " لقد ارتكبتم حماقة"!
لطالما قيل أنّ أجمل لون في العالم هو ذلك الاحمرار الجذاب أو الأخاذ الذي يلوّن –بوحي من البراءة والشباب والصحة والتواضع والحشمة- خدود فتاة جميلة. وقد قيل أيضا ما ليس رشيقا فقط أو مؤثرا ورهفا ولكن ما كان حقيقيا لأنه قد يصعب على الملوّن ابتكار اللون الأبيض الوردي. إنه ذلك الأبيض الذُهني لا الكادر ولا اللامع، إنه مزيج من الأحمر والأزرق الذي ينضح بشكل خفي. ومما لا شك فيه أنّ تنوع الأقمشة والأغطية قد لعبت دورا معتبرا في تطوير وتحسين فن التلوين. والحقُ أنّنا قد نجد أنفسنا أمام روعة خلابة أو هيبة فنان مناغم Harmoniste يصعب علينا حقا اتقاؤها أو تجاهلها، غير أنه يجب عليّ أن اعترف هنا بأنه ليس من السهل توضيح هذه الفكرة.ولكن ومع ذلك، وقصد مزيد من التوضيح أسوق هذا المثال: قد نشاهد على لوحة ما امرأة ترتدي لباسا أبيضا. غطوا بقية اللوحة ولا تنظروا إلا إلى هذا اللباس الذي قد يبدو بلون كدر وغير لامع. ولكن وفي الوقت نفسه، أعيدوا إلى ما كان لهذه المرأة وسط الأشياء التي تحيط بها؛ حينئذ، سيسترجع اللباس واللون أثرهما، علما أنّ كل الفارق أو درجة إشراق اللون ناقص هنا، غير أنّ هذا النقص قد يُعوّض بالتناغم. هذا، وبمقدورنا القول إنّ درجة التلوين يمكن أن يعتريها النقص ولكن من دون أن تكون خاطئة تماما. ومع ذلك، يمكن أيضا أن تكون ناقصة من دون تحطيم تناغم الألوان وانسجامها. وعلى العكس من ذلك، من الصعب التوفيق بين شدة التلوين وهذا التناغم والانسجام. ومن المعلوم أيضا أنّ إظهار اللون الأبيض والمضيء أمران مختلفان تماما. زد على ذلك أنّ التركيبين أو التكوينين متساويان، غير أنّ الأكثر لمعانا وضياء سينال -من دون شك- إعجاب الناس؛ إنه اختلاف النهار والليل. وهنا يمكن للمرء أن يتساءل: من هو الملوّن الحقيقي والكبير؟ ليس من شك أنه ذلك الملوّن الذي اتخذ أسلوب الطبيعة والأشياء المضاءة، ومن ثمة استطاع تحقيق التناغم والانسجام في اللوحة الفنية. وبموازاة مع ذلك، قد تحدث تشويهات في التلوين أو في الرسم، والحالُ أنّ هذه التشويهات لا تتوافق تماما مع الذوق السليم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق