أنطولوجيا العمل الفني في الجماليات الفينومنولوجية لرومان إنغاردن
(ج1)
بقلم/ أ.د كمال بومنير
يُعْتَبرُ الفيلسوف البولوني المعاصر رومان إنغاردن (1) Roman Ingarden أحد الوجوه البارزة التي أسهمت في تأسيس وبناء صرح الجماليات الفينومينولوجية Esthétique phénoménologique التي لم تنل الاهتمام الكافي في كتابات إدموند هوسرل Edmond Husserl. ولعل من المناسب أن نلاحظ، هنا، أنّ رومان إنغاردن، ورغم تأثره بهوسرل وبمنهجه الفينومينولوجي فإنه أدخل العديد من "التعديلات" الفلسفية، وبخاصة فيما يخص تطبيق هذا المنهج في مختلف مجالات الحياة الإنسانية بغية تأصيل وتعميق المشروع الهوسرلي الذي شكّل تحولا أو منعطفا أساسيا في مسار الفلسفة الغربية المعاصرة. وفي هذا السياق، يمكننا أن نشير إلى الأعمال الفلسفية الأولى لهوسرل، وعلى رأسها كتاب "المباحث المنطقية" (صدر في 1900-1901) كان قد قام على منهج قوامه وصف الماهيات بواسطة ما يسمى بالاختزال أو الرد الماهوي La réduction eidétique . وبيان ذلك أنه منذ صدور كتابه أفكار موجّهة من أجل في فينومينولوجيا خالصة (نشر عام 1913) انتقل هوسرل-كما هو معلومٌ- من عملية الوصف الفينومينولوجي إلى ما يسمى بالتقوّم الفينومينولوجي La constitution phénoménologique قصد معرفة كيفية تقوّم الموضوعات داخل الوعي. ومن أهم المآخذ الأساسية التي يأخذها رومان إنغاردن على هوسرل أنه اختزل العالم في شيء ينتجه الوعي(2)،لهذا السبب رفض إنغاردن هذه النزعة الاختزالية التي تكتفي برد العالم إلى موضوع الوعي، علما أنهما (أي الوعي والعالم) مختلفان من الناحية الوجودية. والحالُ أنّ ما يحمل دلالة بالغة في هذا السياق هو أنّ هوسرل، حينما ذهب إلى أنّ العالم من إنتاج أو خلق الوعي، فإنه كان –والحقُ يقال-يعزو للعالم نمطا من الوجود القصدي Intentionnel عوض أن يتميز بنمط من الوجود الفعلي. لهذا السبب اضطر رومان إنغاردن إلى دراسة الموضوعات الفنية والجمالية من حيث كونها تكتسي طابع الوجود القصدي لأنّ من "بين ما يجب عمله ضرورة إظهار البنية الجوهرية والوجودية للموضوع القصدي المحض، حتى يمكننا فيما بعد النظر في ما إذا كانت للمجسدات الحقيقية، وفقا لطبيعتها الخاصة، نفس البنية ونفس الطريقة الوجودية. لهذا الغرض بحثت عن موضوع لا مجال للشك في قصديته المحضة، يستطيع الباحث بواسطته دراسة البنيات الجوهرية وطريقة وجود الموضوع القصدي المحض، دون الخضوع للإيحاءات الناتجة عن النظر إلى الموضوعات الحقيقية"(3). ويبدو أنّ الهم الأساسي الذي سيطر على إنغاردن، فيما يخص هذه النقطة بالذات، يتمثّل بقدرة الرد الماهوي على تحقيق الإمكانية الخالصة، من حيث أنه يقدّم ضمانة ووسيلة مفيدة لنظرية المعرفة. غير أنّ الوصول إلى الماهية والعلاقات الماهوية فهو من دون شك أمر يتم من خلال التجريد. بحيث، وحينما ننطلق من حالة معينة نستطيع الوصول-من خلال حذف المتغيرات العارضة- إلى حدس ثابت أساسي. إلا أنه، خلافا لأستاذه هوسرل، لم يعوّل كثيرا على مفهوم الماهية لأنها في نظره تثير غموضا والتباسا. ضمن هذا السياق يميّز إنغاردن بين الموضوع المثالي Objet idéal (من حيث هو وجود فردي)، والصفة المثالية ( الماهوية،Essentialité . هذا، ويمكن أن نشير هنا على سبيل المثال إلى اللون الحمر أو التربيع)، بالإضافة إلى الفكرة (وتسمى أحيانا المفهوم المثالي). والحقُ أنّ الفكرة هي بمثابة الخيط الناظم التي تلعب الدور المركزي في أنطولوجيا Ontologie رومان إنغاردن(4).
ولعل من المناسب أن نلاحظ، هنا، أنّ رومان إنغاردن، وعلى الرغم أنه انطلق من أرضية فلسفية فينومنولوجية فإنه سرعان ما أضفى عليها طابعا أنطولوجيا، مخالفا في ذلك أستاذه هوسرل. وذلك بغرض مقاربة القضايا والمسائل الفنية والجمالية. بل وأكثر من ذلك، قام بقلب العلاقة بين الأنطولوجيا والفينومينولوجيا، قصد الاحتفاظ بهذه الأخيرة على مستوى الوصف الماهوي للمعيش الخالص، وأيضا بغرض عدم انزلاقها نحو المنظور المتعالي الذي بقيت سجينة له في فينومينولوجيا هوسرل (التي بقي رومان إنغاردن مدينا لها لسنوات طويلة(5)) . وهذا، والحقُ يقال، قد تم ضمن موقف فلسفي جرئ وأصيل، لا يقل أهمية عن تلك المحاولة التي قام بها أيضا أحد تلامذة هوسرل البارزين، الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر Martin Heidegger، ولكن وفق رؤية أخرى وأغراض فلسفية مغايرة تماما لا يسع المجال هنا للتفصيل فيها. هذا، ولابد من الإشارة هنا، إلى أنّ رومان إنغاردن،في سياق طرحه للفينومينولوجيا على أرضية أنطولوجية(6)، قد ميّز بين ثلاثة مباحث أنطولوجية أساسية وهي: أولا، المبحث المتعلق بما يسميه بالأنطولوجيا الماديةOntologie matérielle . ثانيا، الأنطولوجيا الصورية Ontologie formelle . ثالثا، الأنطولوجيا الوجودانية existentiale Ontologie. فمعلومٌ أنّ هذه الأخيرة ليست متعلقة بالوجود الحدثي للأشياء وإنما بجملة التعيينات التي تشكّل نمط وجود ﺑ"اللحظات الوجودانية". لذلك، فإنّ مدار اهتمام الأنطولوجيا الوجودانية هو نمط وجود بعض الموضوعات أو الأشياء من حيث المحدّدة وفق ماهيتها. وهذا، بغض النظر عن وجودها الذي قد يعلق أو يأخذ طابعا افتراضيا(7). ويقتضي هذا السياق الإشارة إلى أنّ من وجهة نظر الأنطولوجيا الوجودانية يتميّز العمل الفني –بحسب رومان إنغاردن- بتوجهه القصدي الخالص. وهذا يعني أنّ وجوده وجملة الخصائص المرتبطة به تتوقف على الأفعال الإبداعية والخلاّقة للفنّان الذي لولاه لما كان من الممكن أن تستمر في الوجود. ويمكن القول أيضا أنّه (أي العمل الفني) أنه لا يتضمن أي ماهية خاصة بخلاف الأشياء الفعلية، علما أنّ كل محدّداته الصورية والمادية والوجودية مضافة إليه ليس إلا. لذلك بإمكاننا القول إنّ هذه المحددات ليست محايثة لهذا العمل، وبالتالي يمكن تعديلها إذا أراد الفنّان ذلك.
من ناحية أخرى، يمكننا القول بأنّه يمكن أن يتم إنتاج العمل الفني (أو تجاوزه) من خلال موضوع آخر(8). يتعلق الأمر هنا، على سبيل المثال، بالعمل الفني الأدبي المكوّن أو المؤلف الذي يستمد صفة الوجود من "الموضوع القصدي المحض، بحيث يتم "تشكيله" عن طريق عملية إدراكية أو سلسلة من العمليات، أو عن طريق شكل (دلالة أو جملة مثلا)، ينضوي على القصدية المعارة، بحكم القصدية الضمنية الأصلية أو المعارة فقط في معنى مجازي ويجد أصل وجوده ووجوده –الكامل- على هذه الصورة في مجموع الموضوعات المذكورة. أما بأي معنى يجوز لنا أن نتحدث هنا عن إنجاز "خال" للعملية الإدراكية وعن شيء "مخلوق" ترابطيا وعن وجود الموضوع القصدي المحض، فستكون لنا فرصة تفصيل ذلك في ما يأتي بعد (9).
الهوامش:
( ) رومان إنغاردن Roman Ingarden فيلسوف بولوني معاصر، وأحد أقطاب الفلسفة الفينومينولوجية. وُلد في 5 فبراير من سنة 1893 بمدينة كراكوف، درس علم النفس في جامعة غوتنغن الألمانية في 1911، ثم انتقل إلى دراسة الفلسفة سنة 1912، وهذا بعد تعرفه على الفيلسوف الفينومينولوجي الكبير إدموند هوسرل Edmond Husserl، وقد لازمه إلى غاية سنة1914 متتلمذا ودارسا للمنهج الفيونمنولوجي، ثم واصل دراسته بجامعة غوتنغن إلى غاية سنة 1916، وبعدها مارس التدريس بجامعة لفوف. لقد تميز رومان إنغاردن عن غيره من الفينومينولوجين الأوائل بتطبيق المنهج الفينمنولوجي في الحقل الفني والجمالي، إلى درجة أنه استطاع أن ينتج أعمالا في هذا الحقل، بحيث أصبحت تكتسي أهمية كبيرة في الدراسات الفنية والجمالية المعاصرة.من أهم مؤلفاته: "ما العمل الموسيقي؟ " 1933 "معرفة العمل الأدبي" 1937"، "حول بنية الصورة: دراسة في نظرية الفن" 1946، "دراسات جمالية" 1957، "التجربة، العمل الفني والقيمة" 1966 "أسس نظرية المعرفة"1971، "حول الإنسان" 1972. . توفي رومان إنغاردن في 14 جوان 1970.
(2) « La réalité, aussi bien la réalité d’une chose prise séparément que la réalité du monde dans son ensemble, ne comporte par essence (au sens strict que nous prenons) aucune autonomie. Ce n’est pas en soi quelque chose d’absolu qui se lie secondairement à un autre absolu ; ce n’est, au sens absolu, strictement rien ; elle n’a aucune ‘essence absolue’ ; son titre d’essence est celui de quelque chose qui par principe est seulement intentionnel, seulement connu,
représenté de façon consciente, et apparaissant » Edmond Husserl, Idées directrices pour une phénoménologie, Paris, Gallimard, 1950, § 50, p 164.
(3)رومان إنغاردن، العمل الفني الأدبي. ترجمة أبو العيد دودو. منشورات مخبر الترجمة والمصطلح. جامعة الجزائر، 2007، ص26.
(4) Patricia Limido-Heulot, « Sens et limites de l’analyse ontologique dans l’esthétique de Roman Ingarden » Bulletin d’analyse phénoménologique VII 2, 2011, p 1.
(5)« Je souhaite cependant ajouter que ce qui peut aller de soi dans l’esthétique « phénoménologique » doit être rappelé ici pour montrer que je n’abandonne en rien la conviction que les œuvres d’art, les objets esthétiques, aussi bien que les créateurs et les récepteurs, et les connexions entre les deux peuvent et doivent être étudiés avec le concours de la méthode phénoménologique. Cette méthode vise surtout à faire accéder ces objets d’étude à une donation immédiate dans une expérience ayant une forme appropriée et à une description fidèle des données de ce vécu. Je continue d’être convaincu qu’il est à la fois possible et justifié de parvenir dans ces recherches à prendre pour objet l’essence des faits donnés et à explorer le contenu des idées générales entrant dans le champ des objets de la recherche. Il me semble que cette méthode peut produire des résultats qu’il serait difficile d’atteindre par des recherches esthétiques organisées de façon différente ». Roman Ingarden, « Esthétique et ontologie de l’œuvre d’art. Traduit par Patricia Limido-Heulot , Paris, éditions Vrin, 2011, p 63.
(6)« Par ontologie, j’entends toute recherche apriorique sur le statut des idées qui appartiennent à un domaine unifié par une idée régionale et qui sont les idées d’entités-être. Sous l’ontologie prise en ce sens tombe donc également la phénoménologie de la conscience pure qui constitue aussi pour elle-même une région ontologique déterminée » Roman Ingarden, dans Ingarden-Husserl. La controverse Idéalisme-réalisme. Traduit par Patricia Limido-Heulot, éditions Vrin, Paris, 2011, p 63.
(7) Patricia Limido-Heulot, « Sens et limites de l’analyse ontologique dans l’esthétique de Roman Ingarden , p 5.
8Ibid, p 8.
(9)رومان إنغاردن، العمل الفني الأدبي، ص154.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق