الرأسمالية كدين
تأليف: فلتر بنيامين
ترجمة وتقديم: أ.د/ كمال بومنير
هذا النص
الهام الذي أقدمه للقارئ العربي، وخاصة المهتمين بالدراسات النقدية، هو
للفيلسوف والناقد الأدبي الألماني فلتر بنيامين Walter Benjamin
(1940-1892)، أحد ممثلي الجيل الأول للنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت. وهو
نص كتبه بنيامين في نهاية عام 1921. إنّ ما يميّز هذا النص أو الشذرة هو
الغموض، وبالتالي صعوبة الفهم بالنسبة إلى القارئ، بحيث لا يسمح له بالولوج
إلى مضامينه ومقاصده بسهولة ويسر، نظرا لأسلوبه الشاق والمبهم. لذلك
–والحقُ يقال- يجب أن نعترف بأنه ليس من السهل الخوض في متاهات كتابات فلتر
بنيامين ونصوصه وفهم فكره الفلسفي كما أكد ذلك الباحثون المختصون في فلسفة
فلتر بنيامين. هذا، واعتقد أنّ من أهم أسباب هذا الغموض هو الطابع
التركيبي المميز للنصوص البنيامينية التي تجمع عناصر فكرية متناقضة أحيانا؛
لقد تضمنت هذه النصوص ثلاثة مصادر فكرية "متناقضة" وهي على وجه التحديد:
الرومانسية الألمانية Le romantisme allemand والمشيحانية اليهودية Le
messianisme juif والماركسية Le marxisme ، بالإضافة إلى سعة وتعدد
الروافد الفلسفية والأدبية (نيتشه، شوبنهور، كانط، هيغل، بروست، بودلير،
بلزاك، هانز ريشتر، الخ).
هذا وتجدر الإشارة إلى أنّ فلتر بنيامين كان
متأثرا في هذا النص بأطروحة عالم الاجتماع الألماني الكبير ماكس فيبر Max
Weber الذي ذهب إلى القول أنّ الرأسمالية التي تطورت منذ القرن السابع عشر
تعود في الأساس إلى الديانة المسيحية، وخاصة إلى الروح البروتستانتية التي
أنتجت قيما وخلقت شروطا فكرية أسهمت إيجابا في تطور الرأسمالية وتقدمها.
غير أنّ فلتر بنيامين يذهب إلى أبعد من ذلك، وبصورة أكثر راديكالية من ماكس
فيبر، حيث يرى بأنّ الرأسمالية نفسها هي دين أو تحولت إلى ظاهرة دينية.
وهي المسألة التي تطرق إليها فلتر بنيامين في هذا النص.
النص:
يمكننا النظر إلى الرأسمالية على أنها دينٌ بالنظر إلى لما تقوم به من تخفيف من هموم الناس وقلقهم وانشغالاتهم بمثل ما كانت تقوم به الأديانُ في الزمن الماضي. والحقُ أنّ إثبات وجود بنية دينية خاصة بالرأسمالية- لا من حيث كونها مشروطة بالعامل الديني فقط، كما اعتقد ماكس فيبر Max Weber وإنما من حيث هي (أي الرأسمالية) ظاهرة دينية بامتياز- سيجرّنا اليوم لا محالة إلى الخوض في جدال كوني على نحو مفرط للغاية. ولكن ومع ذلك بإمكاننا أن نتبيّن في الوقت الراهن ثلاث سمات خاصة بالبنية الدينية للرأسمالية وهي: أولا، إنّ الرأسمالية دين تعبّدي Cultuel خالص، بل هي ربما دين تعبّدي إلى حد لم يسبق له مثيل. بهذا الصدد، يجدر بنا أن نشير إلى أنّ الرأسمالية لا تحتوي على دلالة خارج هذا الطابع التعبّدي رغم أنها تفتقد إلى عقيدة معيّنة وإلى علم اللاهوت Théologie. وإذ ذاك، لا غرابة أن تكتسي النزعة النفعية Utilitarisme طابعا دينيا. ثانيا، لقد ارتبطت الرأسمالية بتقديس العبادة: فمن المعلوم أنّ مدة التعبّد دائمة وغير منقطعة. والجدير بالذكر هو أنّ الرأسمالية كانت في واقع الأمر عملا تعبديا بلا توقّف ولا رحمة، بحيث لا توجد "أيام عادية"، بل يتم الاحتفال في كل يوم، فيُقام موكب مقدس يصطحبه توترٌ شديدٌ يسكن المتعبِّد. ثالثا، إنّ هذا التعبّد يجعل المرء يشعر دوما بالذنب. وعلى الأرجح فإنّ الرأسمالية أول مثال عن تعبّد غير مكثرت بالتكفير عن الذنوب والخطايا بل مثير للشعور بهذه الذنوب والخطايا. وعلى هذا، كانت المنظومة الدينية في خدمة حركة مخيفة للغاية. وعنذئذ، نستطيع القول بأنّ وعيا مذنبا قد استحوذ على التعبّد، ليس بغرض التكفير عن هذا الذنب وإنما ليتخذ طابعا كونيا، ومن ثمة لإقحامه بقوة في مجال الوعي. بل وأكثر من ذلك، بغرض توريط الإله في هذا الشعور بالذنب. والحقُ إنّ ما هو غريب في الرأسمالية، من الناحية التاريخية، هو أنّ الدين لم يعد إصلاحا وإنما هو بالأحرى انهيار للكينونة برمتها. وهكذا انهار ذلك التعالي الإلهي. ولكن هذا لا يعني البتة أنّ الإله مات فعلا. والحقُ أنّ هذا الأمر بالذات كان مرتبطا –بطبيعة الحال-بمصير الإنسان نفسه. إنّ الانتقال من كوكب الإنسان وفق مداره المنفرد إلى مسكن اليأس والقنوط هو بكل تأكيد ما كان يسعى إلى تحقيقه فكر نيتشهNietzsche . والمقصود بالإنسان هنا هو الإنسان الأعلى الذي كان يسعى لتحقيق مطلب الدين الرأسمالي. رابعا، السمة الرابعة للرأسمالية أنّ إلهاها مخيف، وبالتالي لا يصح من منظورها التوجه إليه إلا في اللحظة التي يبلغ فيها شعور الإله بالذنب أوجه.لقد أسهمت النظرية الفرويدية من جهتها أيضا في ترسيخ هذه السيطرة الكهنوتية لهذا التعبّد. لذا، نستطيع القول بأنّ الفكر (الفرويدي) رأسمالي بالكامل. وعن طريق تمثّل عميق، الذي لا يزال –والحقُ يقال- في حاجة إلى تبيين وتوضيح، بإمكاننا القول إنّ المكبوت وما يسمى بالتمثّل المذنب هو الرأسمال الذي يوّلد مصالح جحيم اللاوعي. إنّ نمط التفكير الديني الرأسمالي قد عبّر عن نفسه بشكل كبير من خلال فلسفة نيتشه. يبدو أنّ مفهوم الإنسان الأعلى قد حوّل "القفزة" الرؤيوية Apocalyptique إلى نوع من التكثيف والتشديد Steigering المتواصل بدل تحويلها إلى هداية واستغفار وتطهير . ولكن ومع ذلك، وفي اللحظة الأخيرة يمكن أن تصبح متقطعة وغير متواصلة بمفعول انفجار ما. لهذا السبب كان من المستحيل الجمع بين التكثيف أو التشديد من جهة والتطور من جهة أخرى. وإذا كان الأمر كذلك، أصبح بإمكاننا القول إنّ الإنسان الأعلى هو الإنسان تاريخي وصل بدون أن يتحوّل. أما كارل ماركسKarl Marx فقد كان يرى أنّ الرأسمالية التي لا تتحوّل تصبح اشتراكية عبر المصلحة والمصلحة المركبة التي نتجت عن ارتكاب خطأ.
وبهذا، نستطيع القول بأنّ الرأسمالية دين تعبّدي لكن بدون عقيدة. وحاصل القول في هذا الموضع هو أنّ الرأسمالية تطورت في الغرب بنوع من التطفل على حساب الدين المسيحي، وهو الأمر الذي يجب إثباته لا بالنسبة إلى الكالفينية Calvinisme فقط وإنما بالنسبة إلى المذاهب المسيحية الأرثوذوكسية الأخرى أيضا. ومما تقدم، يتضح أنّ تاريخ المسيحية هو في الوقت نفسه تاريخ الرأسمالية أيضا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق