الجميل وفكرة الحقيقة
تأليف: كارل فلهام سولغر
ترجمة وتقديم: أ.د / كمال بومنير

النص:
عندما نقارن "الجميل" Le Beau- من حيث هو مظهر لتجلي الفكرة- مع فكرة الحق Le Vrai سيتبيّن لنا لا محالة أنّه من غير الممكن أن تتجلى فكرة الجميل مباشرة من خلال فكرة الحق مادام أنّه –وعبر هذه الفكرة- تبدأ المواد المتعارضة تنفصل عن بعضها البعض. لا يمكننا العثور على الحق إلا من خلال عملية خاصة لملكة التفكير التي يمكنها أن تصل إلى أبعد من المظهر الخالص. ولو كان لزاما علينا الاستعانة بالعقل لفّكِ وإلغاء ما يظهر لنا ونقله إلى الماهية سيزول حتما الانطباع برؤية الجمال. والحالُ أنّ الجميل يمثّل الفكرة من حيث هي حاضرة في المظهر، لا من هي متعلقة بالمحسوس ولكن بالأحرى بما هي متعلقة بالفكر أيضا –وبطبيعة الحال أقصد هنا الفكر العملي لا الفكر النظري- مثلما هو عليه حال فكرة الحق التي تسعى إلى إلغاء تناقضات الوجود. لذلك يجب أن يكون الجميل أيضا حقا، وهذا بالنظر إلى إمكانية رد مظهره إلى الفكرة رغم ما بينهما من اختلاف لأنّ هذا الرد يتم –والحقُ يقال- عبر المظهر نفسه من دون أن تكون التناقضات التي أشرنا إليها سابقا في حاجة إلى ردها بواسطة الفكر إلى وحدة ما. ضمن هذا السياق يمكننا القول بأنّ الوعي بالذات La conscience de soi ، بمعناه السامي، هو من دون شك المصدر الأصلي الذي ينبثق منه الواقع بجميع تناقضاته ومحدداته. لذلك لزم أن يتطابق أحدهما مع الآخر، أي الوعي بالذات والواقع. والحقُ أنّ وحدة الوعي بالذات ليست أمرا شكليا ولكنها شيء مستقل بذاته. وإذا كان من اللازم أن تكون هذه الوحدة متعلقة بوحدة الحقيقة مع ذاتها فإنه –وفي مثل هذه الحالة- من الضروري أن تكون كل محدّدات الوجود معروفة فيما يخص المتناقضات الخاصة بالكوني والخصوصي من حيث أنّ كليهما ينبثق من الوعي. وبهذا المعنى، يمكننا التعرّف على وحدة المعرفة من حيث هي وحدة مع ذاتها تتم من خلال "الوعي العملي" La conscience pratique. من المعلوم أنّ مصدر كل "فعل" مناسب للفكرة لا يكمن ببساطة في الكوني أو في وعينا وإنما في اللحظة التي لم ينفصل فيها الكوني عن الخصوصي. إننا نعتقد في العادة أنّ الأنا الموجود فينا بسيط وأنّ العالم الخارجي متنوع، وأنّ ما هو بسيط يتحدّد من خلال هذا التنوّع؛ والحقُ أنّ هذا هو بالذات أساس الفعل. إنّ ما هو بسيط فينا يصدر عنه فعل خيّر من وجهة نظر أخلاقية في حالة إذا لم يتحدّد إلا من ذاته، بحيث يستعمل الأشياء الخارجة عنه كوسائل من دون أن يتحدّد بها. وعلى هذا الأساس يمكننا القول بأنّ هذا التمثّل الذي استند إلى النسق الفلسفي الكانطي غير مؤسس بالكلية [..]يبدو لي أنّ فكرة الجمال ليست فكرة "عملية" خالصة؛ والحقُ أنّ ما هو جدير بالاهتمام هنا ليس الفعل الذي يضفي على الفكرة طابعا واقعيا بصورة متعاقبة، بل على العكس من ذلك، يجب النظر إلى الجميل كشيء مكتمل وتام. انطلاقا من هذا، يمكننا القول بأنّ الجميل يكتسي –من دون شك- طابعا "نظريا". وهذا ما أكدته وجهة النظر "الدينية" أيضا. والحالُ أننا لا نستطيع أن نبرز انبثاق التجلي الإلهي في أنفسنا أو نحدثه وإنما بالأحرى نعيشه كتجربة من دون أن نكون قادرين على فعل شيء ما. وعندئذ، يتبيّن أنّ هذه التجربة التي يمكن أن نعيشها من حيث هي متعلقة بما هو نظري ليس إلا. وهذا ما يفسر لنا –بطبيعة الحال- لماذا كان للدين ذلك الجانب النظري المتميز والهام. إنّ مذهب الجمال يتضمن أيضا جانبا دوغماتيا، بحيث يمكن تعلّم القوانين التي تحكمه. ومع ذلك، لو كانت هذه "الأفكار" نظرية خالصة فإنها في هذه الحالة ستتوافق حتما مع "فكرة الحقيقة". وفي حالة الحقيقة ستكون الوحدة التي تتوسط ذلك مجرد شيء مفترض، وهذا ما لا ينطبق على الجميل نفسه. وإذا كان الأمر كذلك لزم أن يتعلق الأمر هنا بمزج الجانب النظري بالجانب العملي، أو الفكر بالفعل، وهذا في اللحظة التي ينتقل فيها أحدهما إلى الآخر، ويتوقف كل واحد منهما على الآخر. والحقُ أنّ الوعي العملي وحده هو من سمح لنا بالوصول إلى هذه الأفكار. وبهذا، فإنّ الاقتناع الحقيقي في "الدين"، والإيمان الحقيقي أمر لا يمكن تحقيقه بصورة "عملية". إنّ الحاجة العملية قد تسمح لنا القيام بتجربة ما هو في ذاته. والأمر كذلك فيما يتعلق بالجمال. هنا أيضا يكون المسلك "العملي" ضروريا ، غير أنّ هذا المسلك لا ينطلق- كما هو عليه الحال في المجال الديني- مما نصرف النظر عنه أو نتخلى عنه على مستوى وعينا الشخصي، بل على العكس من ذلك، ينطلق من ذلك المسلك الذي تتدفق فيه الفكرة في الواقع. وبهذه الكيفية تمر الفكرة عبر وعينا الشخصي وتذيبها في الوعي الكوني Conscience universelle، ومن ثمة تحوّل الواقع إلى شيء أساسي. والحالُ أنّ "ضرورة الفن" تكمن في هذا المسلك العملي ذاته. وفي هذه اللحظة بالذات نستطيع أن نعرف حقا كيف أنّ الفن يفلت من قدرة الفرد المتأمل لأنّ هذا الأخير ليس –بطبيعة الحال- سوى وعاء للفكرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق