حول مفهوم النقد الاستطيقي في الرومانسية
تأليف: فلتر بنيامين
ترجمة وتقديم: أ.د/ كمال بومنير
ولد الفيلسوف والناقد الأدبي والفني الألماني فلتر بنيامين Walter Benjamin سنة 1892. درس الفلسفة في جامعات فريبورغ وميونخ وبرلين، وتحصل سنة 1919 على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، وكانت رسالته بعنوان "أصول تراجيديا الباروك الألماني"، حيث ارتكز اهتمامه في مجال الفن والأدب، وفي الدراما الألمانية في القرن السادس عشر على وجه الخصوص. كما اهتم بنيامين أيضا بالفكر الماركسي وتأثر به إلى حد بعيد، وخاصة بعد اطلاعه على كتاب غيورغ لوكاتش "التاريخ والصراع الطبقي"، وتعرّفه على المسرحي الكبير برتولت بريشت Bertolt Brecht سنة 1929، الذي ربطته به علاقة صداقة حميمة. والحقُ أنّ هذا التعارف قد مثّل محطة أساسية في فكر بنيامين، وفي أعماله الأدبية والفنية بخاصة، إلى جانب تأثير المخرجة الروسية والمناضلة الماركسية آسيا لاسيس Asja Lacis التي شغف بها حباً. والحقُ أنّ الفضل يرجع إلى هذه السيدة فيما يخص تعميق وتوسيع معارفه بالفكر الماركسي وفي بلورة فكره السياسي أيضا. وفي عام 1923 تعرّف فلتر بنيامين على مفكري معهد البحوث الاجتماعية أو ما يسمى اليوم بمدرسة فرانكفورت (ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر وهربرت ماركوز، الخ)، وقد كانت له صداقة خاصة مع أدورنو، حيث دعاه هذا الأخير إلى التعاون مع المعهد، فانضم بنيامين كعضو عامل عام 1935 حينما كان منفيا في باريس. غير أنه تم العثور مؤخرا على رسالة لماكس هوركهايمر(وقد تولى إدارة معهد الدراسات الاجتماعية في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين)، في الأرشيف الخاص بالمعهد بمدينة فرانكفورت، مؤرخة ﺑ 08 مايو 1940 تثبت الانضمام الرسمي لبنيامين إلى المعهد منذ عام 1933. هذا، وتوفي فلتر بنيامين في 25 سبتمبر من عام 1940 عندما اختار أن ينهي حياته بالانتحار بعد فشله في عبور الحدود الاسبانية هربا من البوليس السياسي الألماني السري (الغيستابو Gestapo ) بغية الالتحاق بصديقيه ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو في الولايات المتحدة الأمريكية. من أهم مؤلفاته:"مفهوم النقد الاستطيقي في الرومانسية الألمانية" (1919)، "شارل بودلير: لوحات باريسية" 1923، "أصول تراجيديا الباروك الألماني" (1928)، "العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تقنيا" (1935)،"أطروحات حول مفهوم التاريخ"(1940).
النص:
لا يمكن تحديد مفهوم النقد الاستطيقي Critique esthétique بدون افتراضات معرفية أو استطيقية؛ ليس فقط لأنّ هذه الأخيرة تستلزم وجود الأولى بل لأنّ النقد نفسه يتضمن، أولا وقبل كل شيء، لحظة معرفية (ومع ذلك، ليس من المهم أن نعتبرها معرفة خالصة أو معرفة مرتبطة بتقديرات ما). وهذا هو حال التحديد الرومانسي لمفهوم النقد الاستطيقي الذي هو نفسه مبني كليا على افتراضات معرفية. غير أنّ هذا لا يعني-بطبيعة الحال- أنّ الرومانسيين الألمان الأوائل قد استخلصوا هذا المفهوم بتبصر ورويّة. لذا، نستطيع القول بأنّ هذا المفهوم يرتكز لا محالة على افتراضات معرفية. والحقُ أنّ هذا هو السبب الذي دفعنا إلى عرض وتبيان مثل هذه الافتراضات، بل وعدم نسيانها فيما سيأتي ذكره لاحقا. لكن، وفي الوقت نفسه، إذا أخذت هذه الدراسة بعين الاعتبار مثل هذه الافتراضات، فمرد ذلك إلى كوننا نستطيع فهمها من داخل الفكر الرومانسي باعتبارها (أي الافتراضات) لحظات منتظمة، والغرض من ذلك هو إثبات ذلك بشكل أوسع مما هو متداول إلى حد الآن. ومع ذلك، لسنا في حاجة إلى التأكيد أنّ بحثنا هذا، وبالنظر إلى تاريخ الإشكالات، هو من دون شك موجه من الناحية النسقية ويختلف في الوقت نفسه عن البحث النسقي الخالص لمفهوم النقد الاستطيقي في ذاته. وبالمقابل، من الضروري الإشارة إلى تحديدين آخرين يتمثلان في: ما يفصله ليس فقط عن التساؤل الخاص بتاريخ الفلسفة وإنما ما يميز فلسفة التاريخ. لذلك لا يصح اعتبار الأبحاث المتعلقة بتاريخ الإشكالات أبحاثا في تاريخ الفلسفة حتى ولو تلاشت بالضرورة، في بعض الأحيان، تلك الحدود القائمة بينهما. وهكذا، فإنّ الإقرار بأنّ كل تاريخ الفلسفة، هو في الوقت نفسه، وبحكم الواقع القائم، مجرد تطور لمشكلة وحيدة، هو بمثابة فرضية ميتافيزيقية ليس إلا. هذا، ومن بيّن أيضا أنّ للعرض، في تاريخ الإشكالات، فيما يخص الموضوع، العديد من التداخلات بتاريخ الفلسفة، كما أنّ افتراض وجود تداخلات مماثلة بخصوص المنهاج، ما هو في واقع الأمر سوى تحويل للحدود. ومع ذلك، فقد نجد أيضا، في هذه الدراسة المتعلقة بالنزعة الرومانسية، تحديدا آخر: والحالُ أنه لن نحاول هنا تقديم الماهية التاريخية للرومانسية؛ أو بعبارة أخرى، لن نخوض في نمط التساؤل الخاص بفلسفة التاريخ. لكن، ومع ذلك، ستزودنا البناءات التي سنجدها فيما بعد، وخاصة فيما يتعلق بالنسقية الخاصة بفكر فريدريش شليغل friedrich Schlegel وبفكرة الفن في الرومانسية الأولى، ضمن المواد المتعلقة بتحديد هذه الماهية.لقد استعمل الرومانسيون كلمة "نقد" استعمالات عدة. أما نحن فسنستعملها بمعنى النقد الاستطيقي من حيث هو منهج معرفي ووجهة نظر فلسفية. والحقُ أنّ هذه الكلمة قد أخذت من دون شك -كما سنوضح ذلك فيما بعد- وتحت تأثير كانط، معنى للدلالة–من خلال وضعها المكتمل الذي لا يُضاهى-على وجهة نظر فلسفية. ولكن ومع ذلك لم تحتفظ لها اللغة المستعملة إلا بمعنى الحكم والتقويم المُؤسَسيْن. انطلاقا من هذا فإننا لا نستبعد –والحقُ يقال- تأثير الرومانسيين فيما يخص هذه المسألة لأنّ من بين إسهاماتهم الدائمة هو تأسيسهم لما يُسمى بنقد الأعمال الفنيّة، لا النزعة النقدية الفلسفية. ومع ذلك، لن نتطرق إلى مناقشة مفهوم النقد بتفصيل أكثر بحسب ما تقتضيه الصلة التي تربطه بالنظرية الاستطيقية، ولن نتعمق أيضا في النظرية الاستطيقية للرومانسية Esthétique romantique إلا بقدر ما نكون في حاجة إلى ذلك عندما يتعلق الأمر بتقديم وعرض مفهوم النقد. وهذا يعني –بطبيعة الحال- وجود استثناء جوهري في هذا المجال: بحيث تم استبعاد النظريات المتعلقة بالوعي( أو الشعور) وبالإبداع الفني (مسائل علم النفس الفني) وبالنظرية الاستطيقية. ولم تبق ضمن هذا المجال إلا تلك المفاهيم المتعلقة بفكرة الفن والعمل الفني. وهكذا، فإنّ الأساس الموضوعي لمفهوم النقد الاستطيقي، مثلما اقترح ذلك هيغل Hegel ، متعلق بالبنية الموضوعية للفن باعتباره فكرة ليس إلا، أي بالأعمال الفنية نفسها فقط. وماعدا ذلك، فقد كان يقصد شليغل الشعر بالدرجة الأولى، إذ لم يكن مهتما بالفنون الأخرى في تلك الفترة، إلا من جهة علاقتها بالشعر فقط. ومن المحتمل أيضا أن تنطبق القوانين الأساسية للشعر على الفنون الأخرى. لذلك تجدر الإشارة هنا إلى أننا سنستعمل كلمة " فن" بمعنى الشعـر (أي الشعـر في موقعه المركزي ضمن جملة الفنـون الأخرى)، وهذا ضمن " العمل فني" أو " العمل الشعري" فقط. إنّه لمن المضِّلل حقا، في نطاق هذه الدراسة، رفع هذا اللبس، لأنها تشير إلى نقص أساسي في النظرية الرومانسية للشعر، وفي الفن عامة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق